حكمت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل المانيا لمدة 16 عاماً تاركة بصماتها في عملية تغيير بلدها وكذلك في توجهات أوروبا والعالم من كافة النواحي.
إن سألنا السوريين فهي بالنسبة لهم الأم الحنون التي حضنتهم وفتحت لهم أبواب الهجرة لألمانيا بقرار إنساني تاريخي اتخذته عام 2015 حين قررت استقبال اللاجئين السوريين الفارين من الحرب وبطش النظام السوري. حينها أبدت المستشارة الألمانية تأثرها بالظلم الواقع على الشعب السوري وفرضت سياسة استقبال السوريين ضمن سياسة استقبال أوروبية تعني كافة الدول الأعضاء. يعلل البعض أنها فعلت هذا لكي تحل الأزمة الديمغرافية الألمانية داخلياً والتي تكمن بهرم الشعب الألماني لضعف الإنجاب لديه، وهي فعلياً حلت الأزمة هذه باستقبال السوريين. ولكنها واجهت يومها بشجاعة وإنسانية نابعة من قيمها الدينية بعض قيادات دول أوروبا الذين أرادوا إغلاق أبوابهم في وجه اللاجئين السوريين. وبعد استقبال ما يزيد عن ثمانمائة ألف لاجئ سوري في ألمانيا عام 2015، انتهجت داخلياً في ألمانيا سياسات اندماج تعد من الأنجح في أوروبا.
بالنسبة للألمان وللأوروبيين تتجسد سياسات المستشارة أنجيلا ميركل بالمرونة والصرامة في ذات الوقت، وكذلك بالإنصاف والدهاء حين يتعلق الأمر باتخاذ قرارات تنافس من خلالها خصومها السياسيين، تجسد هذا في حالات عديدة مثلا عام 2011 ، حين فاجأت الجميع بقرار انسحاب ألمانيا من البرامج النووية معلنة تخليها عن الطاقة النووية لبلدها لتستبدلها بالطاقة الهيدروجينية مع خطة عملية تمتد على مدى عشرات السنوات. لقد فاجأت الجميع يومها بهذا القرار وقالت حينها إنها استنتجت العبرة من الكارثة النووية في فوكوشيما اليابانية.
وبهذا القرار الذي يعد مطلبًا أساسيًا للأحزاب الحامية للبيئة استطاعت يومها أن تتفوق بشعبيتها داخل ألمانيا على الحزب الأخضر الذي كان غريمها الصاعد والذي كان الغريم المباشر لحزبها الديمقراطي المسيحي في الانتخابات.
كثيراً ما تبنت أنجيلا ميركل طروحات أعدائها بموضوعية كلما وجدتها مناسبة لسحب البساط من تحت أقدامهم.
أثبتت في أوقات عديدة مرونتها الفكرية، وانفتاح الأفق الفكري لديها وتفهمها للرأي الآخر حتى حين لا تتفق معه وتجسدت تلك المرونة حين اتخذت قرارات لا تشبهها، ولا تتفق في العمق مع مضمونها كما لاحظنا حين شرعت قانونياً للألمان حق الزواج للجميع عام 2017 والذي يعني حق الزواج للمثليين وكذلك حقهم بالتبني.
لقد فهمت ميركل كقائدة بأنه يتوجب عليها أن تستبق الأحداث وتواكب بسرعة فائقة تطور المفاهيم العامة لدى الجمهور وأن تعي عمق التغيرات السريعة في أسلوب الحياة لدى مجتمعها ومحيطها. فهمت أنها ستخسر لو عاندت التغيير السريع الذي يحصل في التوجه الفكري العام لشعبها.
ورغم أنها تسمى ماما ميركل لدى السوريين من شدة مواقفها الإنسانية تجاههم، إلا أنها بنظر الشعب اليوناني تمثل العكس تمامًا، ففي عام 2012 أصرت على ألا يلغي الاتحاد الأوروبي ديون اليونان لديه دون مقابل. وقال اليونانيون حينها بأن ألمانيا اشترت اليونان، ولكن في الواقع الاتحاد الأوروبي كان يعاني من أزمة اقتصادية عام منذ 2007 وتمويل العجز الاقتصادي اليوناني بسبب سوء الإدارة اليونانية كان سيضع أوروبا في خطر كبير. رغم غضب اليونانيين، قرارها هذا كان من شأنه طمأنة الشعب الألماني الذي أعجب بطرحها الذي ينص بأن على كل دولة أوروبية القيام بواجباتها وتحمل مسؤولياتها ولا يمكن محو الديون من عمل شعوب أخرى.
حينها قامت مظاهرات في اليونان ونعتتها بالنازية، لكن ميركل لم تبال فهي تجيد الحزم وموازنة الأمور. ورغم موقفها الحازم يرونها تراجعت تماماً عنه عام 2020 في أزمة كوفيد عن سياستها الأوروبية الصارمة معلنة عن تمويل وتسديد ديون بمبالغ هائلة لكي تصمد دول أوروبا في أزمة كوفيد.
تترك المستشارة بلدًا جهدت ببناء مكانة مشرفة له بين الدول، فبعدما كان يقال عن ألمانيا بأنها الرجل المريض في الاتحاد الأوروبي قبل عشرين عاماً أصبحت بفضل سياسة ميركل تمثل قوة أوروبية اقتصادية وديبلوماسية.
مع رحيل المستشارة أنجيلا ميركل تودع ألمانيا حقبة تاريخية كانت هي بطلتها وها هي الفيدرالية الألمانية تهيء نفسها لخوض مرحلة جديدة من تاريخها الحديث، وسط تحديات جديدة ستجبرها حتمًا على اتخاذ مناهج مختلفة عما اتخذت المستشارة ميركل.
لربما كثيرًا ما حمى ألمانيا في الماضي انتمائها للحلف الأطلسي الغربي ولكن اليوم هناك معطيات عالمية جديدة تفرض نفسها على وريث ميركل مما سيقتضي منه رسم سياسات خارجية أكثر وضوحًا مما فعلت ميركل.. وفي الواقع لا أحد يدري كيف سيكون وضع الاتحاد الأوروبي قريبًا. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأزمات الدول الأوروبية المؤثرة داخليًا وخارجيًا وأزمة علاقات الولايات المتحدة مع فرنسا حديثًا. كل هذا سيفرض واقعاً أوروبياً جديداً ولا نعلم حتى الآن إن كانت التحالفات الدولية الحالية ستبقى على حالها.
اتسمت سياسة المستشارة أنجيلا ميركل بالتساهل مع الصين وروسيا وجذبت الاتحاد الأوروبي على هذا الخط نوعًا ما ولكن هذا الاتحاد الأوروبي يعاني في العمق من مشاكل عديدة وصعوبة بالغة باتخاذ قرارات متفق عليها وخصوصًا بعدما تضخم من 12 دولة إلى 27 دولة.. وبعدما تفاقمت الاختلافات الاقتصادية والثقافية وكبرت الخلافات السياسية بين دوله.
إرث صعب هذا الذي تتركه أنجيلا ميركل سيقدسها البعض ويلومها البعض وهي حال الشعوب ولكن الأزمة التي شهدناها في اختيار وريث لها وعدم نجاح حزبها بالانتخابات تدل على انقسام داخلي تعيش دول أوروبية كثيرة مثيله.. فرنسا التي بدأت حملتها الانتخابية لاختيار رئيس قادم أيضا تعيش انقسامات وأزمة قرارات في سياستها خارجية.
من المؤكد أننا نعيش مرحلة تحولات كبيرة ستنتج عنها تغيرات لربما باتت ضرورية لإعادة التوازن المفقود في هذا العالم.