ثقافة الخوف عند السوريين.. المصادر والمآلات

القامشلي ـ نورث برس

يتفق الكثير من علماء النفس أن تاريخ الإنسان يقدم خلاصة أخلاقية وسلوكية محوريّة يمكن التعبير عنها على النحو التالي: “الخوف هو العدو الأول للإنسان، وهو كذلك العدو الأكبر للحياة والتفكير بها بطريقة آمنة وسليمة.

وللخوف منابع كثيرة بدءاً من الكوارث الطبيعية إلى السياسية, مروراً بالاقتصادية، والخوف من المستقبل, وأهم مصادره هو الخوف من الموت. وهذا كله مفهوم ومعلوم بحدوده الطبيعية والظرفية التي تنتجه وتحكمه. لكن الخوف السياسي والخوف الثقافي، وتحولهما إلى ثقافة عامة شائعة, هو من أكبر الأخطار والكوابيس التي باتت تحكم المجتمع السوري وأبنائه, وتهدد مستقبله وتصادره.

فالخوف فعل تعطيلٍ وإحجامٍ. وسلوكٍ سلبيٍ, يمنع ويردع من القيام بالفعل والعمل والواجب, ويصيب الفكر بالشلل, وفي أحيانٍ ينتج عنه ردود أفعالٍ سلبيةٍ غير محسوبة ولا متوقعة, وهنا تكمن خطورته, وتظهر آثاره السلبية على الإنسان والمجتمع.

وربما تعود جذوره إلى الاحتلالات القديمة التي تعرض لها, وما رافقها من قمع ورعب واستلاب, ثم جاءت السلطات السياسية الوطنية, لتعمل على زرع الخوف وبثِّهِ في النفوس, لتتمكن عبر ذلك من تثبيت سلطانها, وحمايته.

كافكا ومتلازمة الخوف السوري

ويحدث ذلك غالباً لفقدانها الشرعية, المتعارف عليها في عصرنا الحديث, وهي أن تكون سلطات دستورية منتخبة. ولقد تطور هذا النوع من الخوف كثيراً في فترة الوحدة بين سوريا ومصر, وسمعة المكتب الثاني التي كانت تثير الرعب في نفوس السوريين.

وحكايا التذويب بالأسيد, ثم يأتي بعدها حكم الحزب الواحد, وتحييد معارضيه, إما بالتسريح والاستبعاد، أو السجن, وصولاً إلى ذروة الخوف, في الحرب التي مرت بها سوريا طيلة عشر سنوات, وما رافقها من قتل وقمع وخطف وتشنيع.

وبذلك، يتحول الإنسان السوري, إلى إنسان “كافكوي”، نسبة إلى الروائي كافكا, ذلك الخائف الأبدي, والذي قال في إحدى رسائله: “إنني أغرق في هذا الخوف, غير قادر على مساعدة ذاتي”.

وفي تقديمه لكتابه “الخوف السائل” يقول “زيجمونت باومان”: “قطعت الحداثة الغربية على نفسها وعوداً كثير, من بينها الوعد باستئصال الخوف من العالم, وإخضاعه لإدارة بشرية وعقلانية.

وكان ذلك يعني استبعاد لغة القضاء والقدر والبلاء والابتلاء, وتحويله إلى لغة الإرادة والاستحقاق والمسؤولية والمحاسبة”.

بما يعني ذلك محاربة مصادر الخوف الثلاثة: جموح الطبيعة, وهشاشة جسد الإنسان وخوفه من المرض,  والعدوان البشري الذي يترجم مقولة الفيلسوف توماس هوبز، بأن “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”.

وشبه “باومان” إعصار كاترينا الذي ضرب الولايات المتحدة, بالهولوكوست, التي أفرد لها كتاباً خاصاً. فكل الكائنات تخاف وتفرّ من الخطر، وينطبق ذلك على الإنسان والحيوان. تلك مسألة تتعلق بالغريزة والبقاء.

وتعددت تعريفات علماء الاجتماع والفلاسفة للخوف. وذلك بحسب نظرتهم له: بأنه استجابة انفعالية في مواجهة خطر ماثل أو متوقع, فيحصل ذلك الاضطراب والقلق, وربما الإحجام والقنوط, أو الانسحاب السلبي من المواجهة, ما أمكن ذلك.

ويبدأ الخوف من الطفولة, ثم يكبر وينمو, عبر ثقافة الممنوع والحرام والخطر. فكان الحل عند “باومان” وجود” دولة قوية تهذب الرغبات الكامنة في الإنسان, دولة تعتمد جهنم الدنيوية الواقعية بدلاً من جهنم الآخروية المتخيلة”.

ومن تابوات يمنع مناقشتها يبدأ الخوف الثقافي في سوريا: “الدين والجنس والسياسة”، نتيجة الخوف من السلطات الدينية والاجتماعية وما تملكانه من نفوذ وسطوة.

وسادت في سوريا “التقية” السياسية. أي إخفاء الآراء السياسية نتيجة الخوف والمحاسبة التي تراكمت على مدار سنوات وعقود, وتجارب مرعبة, بدءاً من السجن لفترات طويلة, إلى التغييب والفقدان, مما نسج عليه من القصص, الحقيقية والمبالغ فيها, لكنها كلها تحولت إلى سجلات للخوف, تكدست في لاوعي السوريين, وأُسكنت في دواخلهم خوفاً مزمناً لا فكاك منه.

“داعش” وأفلام الرعب

ازداد الخوف بعد عاصفة الربيع العربي, وتعددت أنواعه وأسبابه, من الخوف السياسي, إلى الخوف الطائفي. إلى الخوف العرقي والمناطقي.

ولم يقتصر الخوف على المناطق المعارضة, التي كانت تخشى القصف والاقتحام, فلقد ساد نفس الرعب في المناطق الموالية, التي كانت تبيت الليالي خوفاً على أبنائها، أو خوفاً من اجتياح التنظيمات المتشددة, وما تحمله من ثقافة تطهيرية, وخاصة بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش), وما بثَّه من أفلام رعب هوليودية، إلى أن ينتهي بالخوف من المستقبل, والقلق الوجودي.

لقد سعى التنظيم إلى نشر نظام الرعب الذي يتّبعه خارج المشرق العربي وصولًا إلى ليبيا ومصر وسوريا وأفغانستان وإلى كل بقعة تصلها يده التي تقوم بأفعال وممارسات وحشية منحرفة تضع كلها في مأزق أخلاقي لا يتصوره أي عقلٍ.

الهروب من الخوف

حصل في فترات كثيرة, أن كان يفر السوري من سيارة الأمن, فراره من الطاعون, حتى لو لم يكن قد ارتكب ما يستحق المحاسبة, وحين يتم استدعاؤه من قبل جهة أمنية, يحصل أن يغادر البلد نهائياً إذا فشل في تأمين واسطة, تضمن له عودة آمنة من تلك الجولة المرعبة.

ويحافظ السوري, على ذكر ألقاب التفخيم والتبجيل, حين ذكر اسم مسؤول ما, في الجلسات العامة, خشية أن يتم تصيده من قبل كاتب تقارير لا يرحم.

كل هذا، دفع معظم السوريين للهجرة، أو محاولة ذلك والتخطيط له, بعد أن استوطن الخوف نفوسهم, وأكل القلق أعصابهم. على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم, ولقد بدأ الكل يسمع الكثير من الأصوات تروي حكاياتها, بعد أن أصبحت في مأمن, في بلاد الهجرة والاغتراب, وسرديات الخوف, التي كانت تلتهمهم مثل وحشٍ خرافيٍ.

إعداد: منار الشامي – تحرير: نور حسن