دمشق تنعي ثقافتها.. ومكتبة نوبل حركت المواجع

دمشق ـ نورث برس

غطت سلسلة إغلاق المكتبات السورية صفحات التواصل الاجتماعي، وخاصة، إغلاق مكتبة نوبل, والذي جاء بعد قائمة طويلة قبلها.

وكأن السوريين استشعروا الخطر الداهم الذي تشير إليه سلسلة إغلاق المكتبات. أو كأن دمشق رفعت يافطة كبيرة، بأنْ “لا مكتبات، ولا كتب بعد اليوم, ولا قراءة ولا قراء”. وداعاً للثقافة والحميمية في اقتناء الكتب وملامسة الورق، والنظر إلى الكلمات المرسومة على الورق، والتعليقات بقلم الرصاص على هوامش الكتب، كملاحظات يسجلها القارئ أثناء مطالعته لكتاب ما.

ورأى البعض إغلاق المكتبة “كارثة وطنية”, كما هو الحال عند “السيناريست تاليد الخطيب”، مترافقاً ذلك مع تحديات كبرى تواجه السوريين من شُحٍّ في الكهرباء والوقود والغذاء والسكر، والنقود، والكرامة.

فيما كتب الصحفي خليل صويلح على صفحته: إن دمشق غدت مدينة بلا مكتبات. بينما كتب الصحفي صبري عيسى، عن الصداقة التي جمعته بأصحابها، والإغراءات المالية الكبيرة التي قُدِّمت من جهاتٍ لهم للتخلي عن المكان, باعتبار معظم المكتبات السورية التي أغلقت, تقع وسط العاصمة دمشق, وفي قلب السوق التجاري, مشيراً أن مكتبة نوبل “لم ترفع راية الاستسلام، وحاولت الصمود والبقاء”.

كما تحدث “عيسى” حول  ذكرياته عن الكتب التي اقتناها من مكتبات أغلقت أبوابها، لنورث برس، كمكتبة اليقظة التي اقتنى منها رواية الأم لمكسيم غوركي, وقد كانت مكتبة اليقظة عبارة عن مكتبة ودار نشر، ونشرت سابقاً ترجمات الأديب السوري الكبير سامي الدروبي.

فيما صرح الشاعر والكاتب مصطفى عبد الرحمن، لنورث برس: “لقد هممت أن أكتب على صفحتي: لابأس أن تغلق المكتبة ويفتتح مكانها فرناً، عساه يساهم في توفير الرغيف الذي غدا أهم من الكتاب, وأكثر إلحاحاً, فمن لا يقرأ لا يموت, لكن من لا يأكل سيموت”.

وأضاف: “قصدي من هذا الكلام أن النتيجة الطبيعية, أن تغلق المكتبات والمسارح والسينمات, في هذا الزمن الصعب, وزمن الاستهلاك الداهم, وأزمة العيش الحقيقية. لقد أصبح هدف الناس الأول, هو تأمين لقمة العيش, والنضال من أجل البقاء”.

ذكريات صاحب المكتبة

صحيح أن “أدمون نزر” صاحب المكتبة أعلن أن الإغلاق جاء لأسباب شخصية، ولا صحة لما يشاع من تحويلها إلى مطعم, لكن في النهاية تم إغلاق المكتبة، وخسارة ركن ثقافي اشتهر بتنوع وجودة إصداراته, ودماثة وثقافة أصحابه.

لقد كان أدمون يستقبل رواد المكتبة بالابتسامة، ويساعدهم في التعرف على مضمون الكتب, بسلاسة ومعرفة, ويقدم للكُتَّاب والقُراء خدمات جمّة, من توفير الكتب, وعرضها للكُتَّاب الجُدُد خاصة, والتساهل في عملية البيع والسعر ما أمكن.

وفي تصريح لنورث برس، يعود “أدموند” إلى ذكرياته التي بدأت مع مكتبة “نوبل”: كانت على شكل مكتبة ثقافية بسيطة، منذ سبعة عقود، يجتمع فيها بعض هواة القراءة والمطالعة، ومن يريد شراء الكتب، واقتصرت النشاطات على جلسات للحديث عن بعض الروايات وقراءة الشعر، ومع زيادة الإقبال على القراءة، بدأتُ العمل، على انتقاء الكتب بشكل أفضل، واستيراد الكتب من الخارج، من مصر ولبنان وغيرهما، بهدف إحياء الحركة الثقافية في دمشق.

ويضيف: “نجح الأمر في البداية، بين أعوام 1980 و2011 في العمل، وقمت أنا وطاقم العمل بانتقاء العناوين، وحتى جودة الورق والغلاف، قبل أن اصطدم بغلاء الدولار ووقف الاستيراد. اعتقدت في البداية أننا سنتمكن من الاستمرار رغم الموافقات الروتينية الطويلة.. علماً أن اسم مكتبة نوبل أصبح مشهوراً على مستوى الوطن العربي، ورغم حالة النشاط التي عرفناها في أيام العمل، إلا أن بعد عام 2011 ما لبثت الأجهزة الأمنية أن فككت ومنعت قيام أية حركة ثقافية”.

وأشار إلى مكتبة ميسلون: “منذ إغلاقها، بدأت اشعر بالعد التنازلي، مكتبة اليقظة التي تقع بجانب مكتبة الكمال، أصبحت محل لبيع الأحذية، وحتى مكتبة الذهبي التي أصبحت محل بيع فلافل، لا أعلم ما مصير مكتبتي!”.

رواد الثقافة محاصرون

تقول سلمى راجح (41 عاماً)، وهي ناشطة في إحدى المبادرات الثقافية في دمشق، لنورث برس: “تعتبر جذور الحركة الثقافية قديمة ومترسخة في دمشق”.

وهذا الأمر حسب “راجح”  دفع الحكومة للتضييق على المكتبات وأصحابها، وصعوبة الاستيراد، ورفع الضرائب بشكل كبير.

وتضيف: “بعض العناوين لم أجدها سوى في المراكز الثقافية، ولقراءتها، يجب أن أحصل على تسجيلٍ، وأن أكتب اسمي، بمعنى آخر يجب أن أقرأ تحت أنظارهم. والمكتبات التي كنت أقصدها عند حاجتي لأي عنوان وأنا في شبابي، أُغلقت اليوم، ففقدتُّ جزءاً كبيراً من ذاكرتي المكانية بغيابهم”.

وتقول: “يبدو أن العقود الطويلة من القمع، لم تترك لنا في سوريا سوى القهر والفقر والخوف، لا صالات سينما، ولا مسرح حر، ولا مكتبات لبيع الكتب”.

مفهوم آخر للعمل

يقول حسن عبد الحكيم (35 عاماً)، موظف في مكتبة نوبل: “تجربة العمل في المكتبة شكلت شخصيتي اليوم. 15 عاماً من العمل في الكتب، تجعلك قارئ بشكل طبيعي. أنا من بيئة ليست القراءة من أولوياتها، وبالصدفة، وأنا أبحث عن عمل، سألت العم ادمون، فسألني: هل تقرأ؟ أجبته بنعم! فقال:” تعال يوم غد للعمل”.

ويضيف “عبد الحكيم” لنورث برس: “لم أستطع فهم العمل في البداية، أخبرني العم ادمون (راقبني أولاً)، وكنت أنظر له وهو يتكلم مع الزبائن في كل مجالات الحياة عموماً والقراءة خصوصاَ. وتفاجأت بكمية الأسماء التي يحفظها من شعراء وكتاب ومخرجين ورسامين، وكنت أشعر بالذهول عند قدوم أحد الكتاب الذي اسمع باسمه، أو رسام أرى لوحتاه”.

ويشير إلى أنه دائماً ما كان يضحك العم ادمون من ذهولي, ويقول لي: “الشيء الوحيد الذي يجب أن يذهلك هو القراءة. ما كنت أراه في لحظة وهو جالس بدون كتاب يقرأه. لكنه، وفي السنوات الأخيرة، شاخ العم ادمون مع مكتبته، وقلَّت كتبه، وزبائنه. واليوم، أسأل: كيف قطعت الحرب أوصال المجتمع الثقافي!؟”.

ويضيف “عبد الحكيم” بعبارات مقتطعة: “أصبح الزبون عملة نادرة. المستودع الكبير لكتب للمكتبة، في منطقة دوما، اختفى بسبب القصف، ولا نعلم عنه شيئاً. دور النشر أُغلقت. وأسعار الورق والحبر والطباعة أصبحت من الصعوبة بمكان. والقراءة من خلال الهواتف الذكية سهلة. والكتب الالكترونية منتشرة. لو كنا في بلد آخر لكانت مكتبة نوبل تحولت إلى متحف”.

ويقول بحسرة: “وقفت شبه مشلول عند سماع خبر اغلاق المكتبة، وأصرّ العم ادمون باستمرار راتبي حتى أجد عملاً آخر، إلا أن نقطة اللاعودة في دمشق قد تحققت بإغلاق مكتب نوبل”.

كأن إغلاق مكتبة نوبل، جاء بمثابة القشة التي قسمت ظهر الثقافة, حيث لم يبق في دمشق سوى مكتبة النوري، ومكتبة دار الفكر الكبرى. والتي تقلص نشاطها كثيراً بعد أزمة الكتاب وارتفاع سعره إلى حدود أكبر من قدرة القراء. وكان إغلاق مكتبة نوبل, مؤشراً خطراً وإنذاراً مشؤوماً حول مستقبل الثقافة والقراءة في دمشق وسوريا عموماً, كما صرح أحد المثقفين لنورث برس.

وقال إن إغلاق المكتبة “مؤشر خطر, ومسار كارثي, يمشي إليه البلد كاملاً، وليس الغريب أن تغلق المكتبة أبوابها , وليس الغريب أن تغلق المكتبة أبوابها، وتمارس دورها التنويري والتثقيفي، بل الغريب أن تبقى، ويبقى الأمل!”.

إعداد: حنين رزق / منار الشامي – تحرير: نور حسن