تحقيق: خضر الجاسم
لم تكن تتخيّل كلّ من “عبير ولهفة خاطر والشمّرية” وغيرهنّ، أن يحظين بفرصة يجنين منها أموالاً طائلة وهن في المنزل، ناهيك أن يتحولن في غضون فترة قصيرة إلى نجمات على برامج خاصة بالبثّ المباشر على الانترنت.
لكن ولسوء حظ بعضهن فإن سعادة الحصول على المال والشهرة رافقتها منغصات في إطار المهنة الجديدة، وكذلك الحال في إطار عائلاتهن، وتسببت بارتفاع مرعب في نسب الطلاق.
في هذا التحقيق، نكشف قصصاً مخفية لنساء من منطقة منبج شمالي سوريا، وقعن ضحيّة الاتّجار بهنّ بواسطة تطبيقات البثّ المباشر، مثل لايكي وبيغو وتيك توك وغيرها.
أرباح وأزواج يرمون الأعراف ورائهم
تقول “عبير” (20 عاماً)، وهو اسم مستعار لصاحبة حساب يحمل نفس الاسم، على تطبيق “لايكي” إنها تزوجت قبل سنوات من شاب وضعه الاقتصادي سيء، وبالكاد يستطيع تأمين قوت يوم العائلة من العمل الحرّ المتقطّع.
ونتيجة لهذا الواقع اضطرا للسفر إلى تركيا ليعملا لفترة وجيزة هناك لكن سرعان ما عادا إلى مدينتهما منبج “بخفيّ حنين”.
تروي المرأة، طريقة انضمامها للبرنامج، حيث طُلِبَ منها العمل، كمذيعة من قبل الوكيل المعتمد بمدينة منبج، “وافقت على الفور”.
وتقول، كان العرض مغرياً إذ سأقبض أرباحي بالدولار الأميركي، وربما تصل في غضون شهر واحد إلى 300 دولار ، كحدّ أدنى، “كان الأمر يستحقّ العناء”.
في البداية طالبهتا الشركة بملف تعريفي مرفقاً بفيديو وصور لها، “فعلت ذلك، وعملت لمدة أشهر متتالية، بنجاح كبير، وازداد عدد المتابعين والمانحين بشكل ملحوظ”.
تؤكّد “عبير” أنّ زوجها لا يمنع عملها، وتقول: “إنّني أجني أرباحاً مادية في ظلّ عدم عمل زوجي حالياً”.
وتحاول المرأة، أن تواءم ما بين عملها بمنزلها وبين قضاء ساعات طويلة مع هاتفها الذي اشترته خصيصاً للبثّ المباشر.
وأثناء البث تقوم بتشغيل أغانٍ متنوّعة قد تكون بناء على طلب “المانح”.
وتضيف: “يطالبني المانحون أن أحدّثهم عن شؤونيّ الخاصّة أو فيما أحبّه من أمور أو نواقص مادّية، يترافق ذلك بأجواء حميمية غامرة فيما بيننا لتنهال عليّ الأموال بصورة لا تصدّق”.
تكاد تتفق الأوساط الشعبية والثقافية في منبج حول عدم الرضى من سلوك الأزواج الذين يكسبون المال من وراء السماح لزوجاتهم بالظهور في برامج البث المباشر.
ويسود في هذه المنطقة مفهوما العيب والحرام ولا يمكن للأسر أن تجاوزهما باعتبارهما من الخطوط الحمراء اجتماعياً.
وفي مقابلات أجراها معد التحقيق مع عدد من رجال يسمحون لزوجاتهم القيام بالبث المباشر، قالوا إنهم يضطرون لتجاوز العادات العشائرية والمبادئ الدينية بسبب الظروف الاقتصادية المريرة.
لكن سماح معظمهم بذلك يكون بشروط كعدم الظهور بالشكل الحقيقي فيكون الظهور بطريقة بورتريه، واستخدام اسم مستعار.

لكن ثمة زوجات يغامرن بالعمل سراً حتى لو أدى اكتشاف أمرهن أمام أزواجهن إلى الانفصال أو التعرض للضرب أو أي أذى آخر.
إصرار رغم تهديد الحياة الزوجية
في هذه الأثناء باتت تطبيقات البثّ المباشر تعج بفيديوهات وصور لفتيات أو نساء متزوّجات يبثن أحاديثهنّ عبر هواتفهن النقالة على وقع “هيصة” أغانٍ مختلفة، يظهرن بأزياء مثيرة مصحوباً بحركات ساخرة تشوبها الميوعة، وتترافق بنزع أجزاء من لباسهنّ أثناء قيامهن بتحديات ومنافسات وألعاب أحياناً.
كما تنتشر بكثرة مقاطع لنسوة يقمن بالرقص الشرقيّ من داخل غرف نومهن وهو ما لم تتعوّد عليه المجتمعات المحلية.
“لهفة خاطر”، اسم لحساب الكتروني في تطبيق “لايفبرو” تديره سيدة تبلغ 35 عاماً ولديها ثلاثة أطفال.
تقول السيدة إنّه بعد مرور أشهر، بدأت تظهر الأمور على حقيقتها في البرنامج: “بدأت الشركة توجّه إلي رسائل، تطالبني فيها بتدوين منشور يفيد بحاجتي إلى دعم مادّي ملحّ، مع الاستمرار في البثّ المباشر بشكل مطوّل، وإلا سيتعرض حسابي للإغلاق”.
وتفسّر “لهفة خاطر”، أنّ هذه الرسائل أقرب إلى “الشحاذة الإلكترونية”، بقصد كسب المزيد من الهدايا والماسات والمنح.
وعطفاً على ذلك عبّرت عن دهشتها: “لقد صدمت بمظهر بعض البنات وملابسهن أثناء البث المباشر، خاصة إذا ما أردن زيادة غلتهن من الأرباح، مما سبّب لي حالة اكتئاب شبه دائمة بالتزامن مع التفكير والقلق المستمرين”.
وتعليقاً على ما تمرّ به من تقلّبات مزاجية كلّ يوم، تقول: “هذه الطقوس اليوميّة كانت محلّ شكّ عند زوجي الذي طالما كان يعارضني لاستخدامي المفرط لبرنامج البثّ المباشر”.
ونتج عن ذلك مشاجرات شبه يوميّة بينها وبين زوجها وصلت ذروتها إلى مرحلة تركها للمنزل مراراً واللجوء لبيت أهلها.
وتروي المرأة أنه طلبوا منها القيام بحركات “دلع” أمام الكاميرا، وسط نقاشات “فضفاضة مريبة” ليس لها طائل تجرى مع “رجال غرباء”.
وتقول: “التصرّفات التي شاهدتها في الغرف الخاصّة، تشبه إلى حدّ ما طريقة الإتجار بالبشر، إذ يتمّ استغلال قاصرات، بهدف تصوير مقاطع فيديو تخدش الحياء العام، ومن ثمّ نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي”.
“اخلعي ملابسك وستكونين أميرتي“
في السنوات الأخيرة انتشرت في المنطقة عموماً “حُمّى الشُّهرة”، فغدت برامج البث المباشر، أسواقاً افتراضية ترتادها النساء الباحثات عن الشهرة بأيّ ثمن، رغم أنّ المحتوى قد لا يحظى بإعجاب الكثيرين.
لذا فإنّ الوصفة السحرية والسريعة التي تتبعها الكثيرات لزيادة عدد المعجبين، هي التصوير بـ “الفلاتر” لإضافة مسحات من الجمال على وجوههن، وتخفيف الملابس أو ارتدائها مكشوفة وضيّقة.
“الشمرية” (28 عاماً)، اسم مستعار لسيدة تنشط على تطبيق “بيغو”، وأمّ لطفلين، وتعمل مدرسة في إحدى المدارس الابتدائية بمنبج.
رغم تأكيدها أنّها تعلم ما يدور في فلك هذه البرامج من أسرار وخفايا مريبة، فإنها تستمر بالظهور اليومي فيها مثلها مثل “لهفة خاطر”.
وتقول: “لقد طلب منّي مراراً نزع النقاب أثناء البثّ المباشر الذي عادّة يكون في ساعة متأخّرة من الليل إلا أنّ ذلك ليس دائماً كوني ملتزمة بدوام بالمدرسة”.
في إحدى المرات طلب منها أحد المانحين من دولة خليجية، أن تتجرّد من ملابسها لقاء مبالغ طائلة وأنها “ستكونين إحدى أميراتي اللاتي يعشن في كنفي برغد ورفاهية”.
لكن رغم إلحاحه الشديد والمتزايد “لم أمنحه ما يريد”.
وتقول إنّ برامج البثّ المباشر، تحوّلت إلى ملاهي ليلية افتراضية يقصدها الباحثون عن المتعة واللهو: “تحولت منبج خلال سنة واحدة من افتتاح مراكز للوكلاء إلى دهاليز لشبكات وكروبات مخصّصة للنساء”.
وتقول أيضاً: “دخولي هذا العالم أشبه بالمجازفة، لكن ليس لديّ أيّ طريق آخر لكسب المال، خاصّة مع صعوبة المعيشة وتدهور الوضع الاقتصادي”.
“يلي ما يفتح زنبيلو ما حدا بعبيلو”
رغم أنّ الوضع الاقتصادي في البلاد يزداد سوءاً مع انخفاض حاد في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي، لكن لا تكاد ترى شاباً أو فتاة إلا وتحمل هاتفاً نقالاً باهظ الثمن وهو ما يفسر محاولة هذه الفئات العمرية مواكبة ما هو جديد حتى لو أتت على حساب حاجات أخرى ربما قد تكون أكثر أهمية بحسب متابعين.
في ساعات الصباح الأولى بمدينة منبج يكتظ شارع القنبوري المخصص لمحلات الهواتف بالزبائن، يعمل أصحاب محلات في هذا السوق وكلاء لشركات البث المباشر، لكن لا يمكن بالتحديد معرفة عددهم لأن الغالبية ينشطون في هذا المجال من المنزل في الفترة المسائية.
وفي وسائل التواصل الاجتماعي تنتشر إعلانات حول الحاجة لنساء للعمل كمذيعات في برامج البث المباشر مثل: “مطلوب بنات ومذيعات للعمل من البيت في برامج البث المباشر. المرتبات تبدأ من 80 دولاراً وينتهي سقفها بـ 1200 دولاراً ولا يشترط الخبرة”.
إعلانات مثيرة للشكوك ويتم تداولها بعشرات الصيغ المختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي. وفى كل مرة يثير استياء البعض كونها تشير صراحة لعمل النساء، ويثير فضول آخرين حول طبيعة العمل الذي يمكن أن يحقق هذا الدخل الكبير خلال ساعات قليلة.
تعد ظاهرة العمل على تطبيقات البث المباشر حديثة بمدينة منبج ما يصعب من مهمة العثور على شركات أو وكلاء شركات أجنبية.
لكن تمكنا من التحدث إلى إحدى الشركات التي تعمل في المدينة، باسم هاي كلاس، لصاحبها آزر كمال خلو.
وبحسب “خلو” فإن غالبية المستخدمين لهذه البرامج هم النساء إذ تصل نسبتهن إلى 80 بالمئة، وتعليقاً على الاتهامات الموجهة إلى هذه التطبيقات والتي تتعلق باستغلال النساء والاتجار بهن، قال إن شأنها شأن مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ويوتيوب.
وعبر عن ذلك بالمثل الشعبي القائل: “اللي ما يفتح زنبيلو، ما حدا يعبيلوا” في إشارة إلى وجوب فعل أي شيء في سبيل كسب المزيد من المتابعين وبالتالي مزيداً من الأموال.
واعتبر أنها تجارة الكترونية تعتمد على أن من يظهر على الشاشة يجلب “كوينز” ومشاهدات كثيرة، تترجم إلى أرباح عالية.
وتقول “الشمرية” إن المتبرّعين من دول الخليج العربي وليبيا والجزائر أكثر سخاءاً من غيرهم، وقد يصل ما يمنحونه في غضون الشهر الواحد إلى حدود ألف دولار أميركي بحسب “الشمرية”.
ويشرف على هذه الكروبات الوكلاء الذين يقومون بتوزيع عمل الناشطات، فبعضهنّ يعملن كمذيعات وبعضهنّ الآخر يقمن بأداء ألعاب مختلفة قد تكون جنسية مثيرة.
مهنة تهدد فراش الزوجية
في الفترة الأخيرة تعالت في منبج أصوات تطالب بإيجاد حلول صارمة لهذه الظاهرة التي باتت تزداد وتيرتها بصورة متسارعة في ظلّ مناخ يشي بجوّ من حريّة المرأة بشكل نسبي في ظلّ سيطرة الإدارة المدنية.
إلا أنّ تنّفس الصعداء إزاء تحرّر المرأة يبدو أنّه جاء عكسياً دون أن تستطيع الجهات الرسمية الوقوف على ماهيتها أو دراستها عن كثب أو وضع التصوّرات اللازمة لإيجاد الحلول المناسبة طبقاً لمتابعين في المدينة.
خاصة أن حالات الطلاق تزداد بصورة مطردة في الآونة الأخيرة مع التوسع الهائل في استخدام الإنترنت، في وقت تطرح المزيد من التساؤلات حول أسباب شيوع هذه الظاهرة، دون وجود بوادر جادة لحلول واقعية.
دار المرأة في منبج، مؤسسة تعنى بالحياة الأسرية، وهي الجهة الإدارية المخوّلة بفضّ النزاعات التي تنشب عادة بين الزوجين.

تقول الناطقة باسم الدار إيمان حمشو، لـنورث برس، إن تطبيقات البثّ المباشر، تم استخدامها على نحو “غير سليم من قبل بعض الزوجات، وساهمت في تدمير العلاقات الأسرية”.
فقد وصلت النسبة المسجّلة لحالات الطلاق بدار المرأة بسبب “الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي” إلى 40 بالمئة من أصل مجمل حالات الطلاق في منبج.
وتعلق حمشو: “إنها نسبة خطيرة، وقد لا نتفاجأ إذا بلغت ذات يوم قرابة 70- 80 بالمئة، مما ينذر بتفكّك النسيج الاجتماعي في قادم الأيام إذا لم يتمّ تدارك المشكلة قبل فوات الآوان”.
وفي محاولة لحل جزء من المشكلة فتح مكتب “وقف المرأة”، وهي مؤسسة تتبع الإدارة الذاتية ومركزها الرئيسي مدينة القامشلي مطلع الشهر الفائت فرعاً لها في منبج.
تقول الناطقة باسم المكتب سهام مصطفى، لنورث برس، إنّهم يعملون الآن للقضاء على هذه الظاهرة “المريبة ومحاولة حماية المرأة ومنع استغلالها من خلال إقامة محاضرات لتوعيتها”.
لكن يرى البعض أن هذه المحاولات غير كافية في ظل الاستخدام المفرط لهذه البرامج بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة والنقص الحاد في فرص عمل بديلة يمكن لها فيما توفرت أن تحد بشكل كبير من عمل النساء في مهنة سلبتهن حياتهن الزوجية.