الدون كيشوت ذلك الداعشي الأوربي الصنع

اعتاد النقاد والأدباء على النظر إلى شخصية الدون كيشوت على أنه مثال للفارس الحالم الذي يحاول إعادة الأخلاق إلى المجتمع، وإعادة العدل القديم ونبل الفرسان القدماء، وإحياء تراثهم حتى غدا الدون كيشوت أيقونة أدبية تمثل هذا الاتجاه الفكري ومثالاً لكل الحالمين بتغيير الواقع عبر العودة إلى المثل والعادات السابقة ذات القيمة الأخلاقية والاجتماعية.

ولدت شخصية الدون كيشوت على يد المبدع الإسباني سرفانتس مع نهاية العصور الوسطى وجاءت على جزأين، أقواهما الجزء الأول، فيما يشك الكثيرون في أن يكون الجزء الثاني من إبداع سرفانتس لما بين الجزأين من فوارق أدبية كبيرة في مستوى الإبداع والفكر، ولكن بالعموم أصحبت هذه الرواية بداية لعصر الرواية في أوربا بعد أن كانت تقتصر على الملاحم البطولية كالطروادة والأوديسة وغيرها من الملاحم التي يتدخل فيها الآلهة أو أنصاف الألهة.

وعبقرية سرفانتس لا تتوقف هنا بل تتعداها إلى قدرته على خلق شخصية أدبية مازالت حية إلى الآن، إنه الدون كيشوت، الفارس النحيل الذي عاش في إحدى قرى الريف الإسباني ولم يتزوج لأنه تفرغ للقراءة حتى انقطع عن الواقع ثم خرج فجأة ليعيد أمجاد الفرسان الجوالين الذين انقرضوا وكانوا يملؤون الأرض عدلاً وينصفون المظلوم ويدافعون عن الضعفاء، يرافقه في رحلاته ومعاركه مع طواحين الهواء خادمه سانشو، الشخص البليد، إضافة إلى حلمه في أن ترى حبيبته دولسينيا أعماله النبيلة فيزداد حبها له ويزداد إعجابها ببطولاته.

كان سلاح الدون كيشوت قديماً استخرجه من مخزن بيته وهو مهترئ أصلاً لأنه قديم ومن صنع أجداده، لكنه يسعى لإصلاحه، وإشارة الكاتب هنا إلى أدوات الدونكيشوت في المعركة (السلاح المهتريء) له دلالاته التي لم ينتبه لها النقاد والأدباء حين حولوا الدون كيشوت إلى مثال للأشخاص الحالمين بالتغيير والطوباويين المثاليين، تلك الدلالة التي سنأتي على ذكرها بعد قليل.

أولى معارك الدون كيشوت كانت مع طواحين الهواء حين تخيل أنها عمالقة شريرة يجب قتالها، وثانيها كانت مع الأغنام التي ظن فيها الدون كيشوت جيشاً من الأشرار.

هناك دلالة أخرى أحب أن ألفت الانتباه إليها في الرواية وهي قيام الدون كيشوت بجلد تابعه سانشو لأنه أقر بأن دولسينيا حبية معلمه الدون كيشوت ليست فائقة الجمال فكان عقابه الجلد بالسوط.

تنتهي حياة الدون كيشوت بشكل مأساوي رغم أن الرواية تحمل طابعاً فكاهياً واضحاً، ولكني لا أرغب هنا في رصد الرواية نقداً ولكني أستغرب أن يصبح الدون كيشوت أيقونة للمثالية والأحلام الوردية رغم أن الكاتب يقدمه على عكس ذلك، فهو أولاً متخلف عقلياً وواهم كما أنه يريد أن يعيد أمجاد الماضي، بمعنى أنه شخص رجعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى إضافة إلى أنه يريد استرجاع بطولات الماضي الغابر عبر السلاح، وهذا ما تفعله داعش والنصرة والقاعدة وكل القوى الإسلامية المتطرفة.

 ألا تريد داعش عودة الخلافة لأنها كانت عادلة وعلى الطريق القويم؟ ألا تحلم كل القوى الإسلامية المتطرفة والمعتدلة بعودة دولة الخلافة ليعم الأمن والسلام والإيمان؟

من هنا يبدو الدون كيشوت متطرفاً وداعشياً بامتياز لا بالفكر فقط وإنما حتى بالأعمال، والكاتب سرفانتس يريد أن يقول بأن النهاية الحتمية لمثل تلك الأحلام هي الخسارة وموت أصحابها بأبشع الطرق وأكثرها مهانة، لأن تلك الأحلام تخالف منطق التاريخ الذي يسير إلى الأمام باستمرار ولا إمكانية لعودته إلى الخلف، هذا ما قصد سرفانتس قوله ولم يقصد على الإطلاق أن يجعل من بطله المتخلف عقلياً أيقونة للمثالية وأيقونة للباحثين عن الأخلاق، بل أراد القول بأن التاريخ لا يمكن أن يعود للوراء، ومن يفكر في ذلك سيكون مصيره مثل مصير الدون كيشوت (الهزء والسخرية).

إن إشارة الكاتب إلى سلاح الدون كيشوت القديم والمهترئ له دلالة فكرية كبيرة تدل على أن هذا الشخص يحمل أفكاراً عتيقة ومهترئة وغير صالحة للقتال أصلاً وليست صالحة حتى للنقاش.

هناك إشارة أكثر خطورة تكشف لنا طبيعة هذا الرجل الرجعي الديكتاتوري الذي يقوم بجلد تابعه سانشو لمجرد أنه لا يرى دولسينيا فائقة الجمال، بمعنى أنه لا يرى ما يراه معلمه، وهذا بنظر اي شخص ديكتاتوري موقف يستوجب العقاب الشديد.

كل ما في شخصية الدون كيشوت تدل على أنه داعشي أوربي قديم خرج من رحم العصور الوسطى ويريد العودة إليها تماماً كما تطالب القوى الإسلامية المتطرفة وتحارب وتقتل في سبيل ذلك.