تداعيات الانسحاب الأميركي من أفغانستان على تجربة الإدارة الذاتية

أنعش الانسحاب الأميركي من أفغانستان آمال الكثير من القوى الإقليمية والمحلية باحتمالية قدرتها على تنفيذ أجنداتها العسكرية والسياسة والاجتماعية، كما شكّل انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان بهذا الشكل المرتبك والفوضوي مصدر خوف لقوى أخرى على مستقبلها وخصوصاً أن هذه القوى تعيش في وسط معاد كلياً لأحلامها وطموحاتها وأحلامها المستقبلية.

على رأس قائمة القوى الإقليمية التي شعرت بالارتياح بعد خروج الأميركان من أفغانستان وتوقيعهم لاتفاق الدوحة مع طالبان يأتي النظام السوري، فالمتابع لإعلام النظام والإعلام الممول إيرانياً سيلاحظ بوضوح ودون جهد لغة النصر في الخطاب المتعلق بأفغانستان وكأن انتصار طالبان هو انتصار للنظام و(للمقاومة)، وهو كذلك فعلاً على الأرض، فإن انتصار القوى المتطرفة يصب في خانة انتصار النظام وحليفته المتطرفة وقيادتها من نظام الملالي في طهران.

لهجة النصر تلك تُعرّي ادعاءات النظام بالعلمانية وتكشف بوضوح صلته بالإسلاميين المتطرفين واعتباره اي انتصار يتحقق لهم هو انتصار له ولأصدقائه من (حلف المقاومة).

لكن فرحة طهران ودمشق بهذا الانسحاب لا تتوقف عند حدود ادعاء المقاومة بل تتعداها إلى إيقاظ وإنعاش حلم النظام في احتمال انسحاب أميركي من سوريا وبالتالي التخلي عن الفصائل الكردية؛ ما يتيح للنظام وإيران القضاء على تجربة الإدارة الذاتية ووأدها إلى الأبد على نحو ما تحلم به طهران ودمشق، وبالتالي سيطرة الميليشيات الشيعية الإيرانية على المنطقة.

تنضم قوة إقليمية أخرى إلى هذا الحلم الذي انتعش، وفق رؤيتهم السياسية، بخروج الجيش الأمريكي من أفغانستان وتخليه عن حلفائه هناك، ونقصد بها تركيا التي تنتظر خبر انسحاب القوات الأميركية من سوريا بفارغ الصبر وحدوث فرصة التدخل العسكري التركي في شمال شرقي سوريا للتخلص من الفصائل التحررية الكردية.

وهنا تلتقي أحلام نظام دمشق مع أحلام حكام أنقرة ولا تنتعش الآمال فقط وإنما يليها انتعاش للتنسيق بين الطرفين الذي لم ينقطع يوماً وفقاً لتصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حين أعلن ذات مرة بأن التنسيق الاستخباراتي بين دمشق وأنقرة لم ينقطع.

وليس خفياً على أحد بأن هذا التنسيق يتركز أساساً على الملف الكردي وكيفية التخلص من كل متلعقات الملف الكردي دفعة واحدة.

وبغض النظر عن الأهداف والأحلام الأردوغانية الأخرى إقليمياً ودولياً التي أنعشها الانسحاب الأميركي، فإن التركيز سيكون على التدخل العسكري في شمال شرق سوريا بشكل مباشر أو غير مباشر للقضاء على الفصائل الكردية التي تصفها أنقرة بالإرهابية.

حليف آخر سينضم إلى المباحثات الجارية حالياً بين دمشق وأنقرة بخصوص الملف الكردي، ونقصد به جبهة النصرة التي تحولت فيما بعد إلى هيئة تحرير الشام، فالجولاني الذي عمل مؤخراً على تحقيق سياسة خبيثة قائمة على نفي أية علاقة له بالقاعدة إضافة إلى التركيز على أن “هيئة تحرير الشام” فصيل محلي معني بالملف السوري فقط ثم قيامه بمحاولات إصلاحية كان الهدف منها إشراك القبائل بإدلب في تحالف معه لضمان ولائها في حال نشوب أي نزاع محتمل، كل ذلك له دلالات واضحة على أن الرجل يريد دوراً لهيئة تحرير الشام في مستقبل سوريا وأن يكون متواجداً على طاولة أية مفاوضات مستقبلية تتعلق بالشأن السوري.

وبالرغم من أن مناوشات جيش النظام لم تتوقف عند حدود إدلب إلا أن هذه المناوشات لم يكن لها أي تأثير على القوة العسكرية لهيئة تحرير الشام، ما يعني عدم نية النظام إلحاق أذى حقيقي بالهيئة تمهيداً لاستخدامها في معركته القادمة ونقصد بها معركته في شمال شرق سوريا.

هذه القوى المتصارعة والمتنافرة يبدو أنها اتفقت على هدف واحد ألا وهو القضاء على تجربة الإدارة الذاتية بعد أن انتعشت أحلامها بخروج القوات الأميركية من أفغانستان وتخلت عن حلفائها في كابل، ما عنى بالنسبة لهذه القوى إمكانية تخلي الأمريكيين عن (مسد) وبالتالي يسهل القضاء على التجربة.

إذن وبالرغم من الصراع التركي مع دمشق وبالرغم من العداوة بين هيئة تحرير الشام والنظام السوري وبالرغم من محاولات الجولاني التفرد بآرائه والابتعاد عن السيطرة التركية، تبدو الظروف الآن مؤاتية لتغيير كل تلك العداوات وتحويلها إلى تنسيق في سبيل الوصول إلى هدف واحد غير أن الواقع على الأرض قد يطيح بكل تلك الآمال والأوهام المنتعشة ويذروها مع الرياح.

إن تجربة الإدارة الذاتية تجذرت في المجتمع بين أبناء المنطقة على الرغم من بعض الهفوات والتجاوزات التي يمكن تلافيها في المستقبل، فالتجربة تحظى بدعم شعبي واسع ليس لدى أبناء المنطقة فقط بل وفي عموم المدن والمناطق السورية كالجنوب والساحل، على سبيل المثال.

وبات كثير من السوريين يرى في فكرة الإدارة الذاتية حلاً منطقياً وشكلاً مقبولاً لسوريا المستقبل.

كما أن لأردوغان حساباته الخاصة، منها أنه يريد التقرب من الإدارة الأمريكية والغرب وغسل مشاكله في اليونان وتدخلاته في ليبيا وشرق المتوسط ناهيك عن مشكلة الصواريخ الروسية إس 400 التي كانت القشة التي قصمت ظهر العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وبالتالي لا نعتقد أن أردوغان لديه الرغبة والجرأة على خلق مشاكل أكبر مع الإدارة الأميركية والاتحاد الأوربي، من هنا وبغض النظر عن انسحاب محتمل للجيش الأمريكي من سوريا أم لا فإنه يكفي أن تقول واشنطن (لا) ليتوقف اللاعبون عن السعي لتحقيق مآربهم.

أما فيما يتعلق بالنظام فإن استدعاء بوتين المفاجئ لبشار الأسد إلى موسكو يحمل دلالات وإشارات إلى اتفاق بين موسكو وواشنطن مضمونه القبول بحل الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وتقول المعلومات المسربة أن بوتين لم يجلس مع الأسد أكثر من عشر دقائق فيما ترك مهمة شرح باقي بنود الاتفاق بالتفصيل لوزيري الخارجية والدفاع، وبالتالي لن يجرؤ النظام على القيام بمغامرة تخالف موقف حليفه الأساسي بوتين.

إضافة إلى حاجة إيران لاتفاق مع واشنطن حول ملفها النووي لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها والتي أرهقت كاهل النظام الإيراني وأوصلته إلى الحضيض تقريباً.

تبقى المشكلة مع جبهة النصرة التي قد يلجأ كل من النظام وتركيا وإيران إلى تحريكها في هذا الاتجاه مع حرصهم على القيادة من الخلف ونفيهم لأية علاقة بأية تحركات قد تقدم عليها هيئة تحرير الشام، وهنا يمكن التعويل على الفصائل الكردية و”قسد” وما تملكانه من شعبية في المنطقة بسبب توجههما العلماني في التصدي لأي مغامرة قد تقدم عليها الهيئة مستقبلاً تنفيذاً لأجندات أنقرة ودمشق وطهران.

 كما أن الهيئة كما سبق وقلنا تحاول غسل وجهها وتنظيف هيئتها لتبدو جاهزة لأية مفاوضات تتعلق بالملف السوري وفرض وجودها على الطاولة.

من هنا نؤكد على أنه لا خوف على تجربة الإدارة الذاتية سواء انسحب الأميركيون من سوريا أم بقوا ذلك أن الـ (لا) الأمريكية كافية ووافية.