بعد فرض الانسحاب من أفغانستان على حلفائه الأوروبيين، ها هو الرئيس الأميركي جو بايدن يتحدى فرنسا ويساهم مع أستراليا على ما لقبته فرنسا طعنة في الظهر لها، وكان هذا على خلفية تراجع أستراليا عن شراء الغواصات الفرنسية من شركة نافال كروب بحجة أنها تحتاج لغواصات تعمل على الطاقة النووية.
ولهذا أبرمت صفقة شراء الغواصات من بريطانيا والولايات المتحدة بدل فرنسا، تم هذا عبر تفاهمات قادتها الولايات المتحدة، وكذلك بررت أستراليا هذا التراجع عن الصفقة بحجج تشير لضرورة تعاون استراتيجي مع لندن وواشنطن وكذلك معتبرة الأمر قراراً وطنياً يخدم مصالحها القومية.
وعبر عن الموقف وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان بلهجة حادة، موضحاً أن في الأمر خديعة لا يمكن أن تصدر عن حلفاء وشركاء، معلناً عن أزمة دبلوماسية لا سابقة لها تجلت في استدعاء السفراء.
وبعد أيام من الصدمة التي تلقتها فرنسا كصفعة معتبرة المسألة مؤامرة اميركية-أسترالية- بريطانية ضدها، بقرار من الرئيس الأميركي، وفي هذه المحنة اتخذت دول الاتحاد الأوروبي موقفاً إلى جانب فرنسا.
و تجلى هذا الموقف من الدول الأوروبية الـ27 بتضامن سياسي ودبلوماسي مع فرنسا مؤكدين على تضامنهم أوروبياً مع فرنسا التي لم تعد وحيدة في أزمتها، مما سيجبر الولايات المتحدة في هاته الأزمة على اعتبار أن المسالة قد تشكل انشقاقاً هاماً في صف الحلفاء.
ومنذ مدة تتعالى أصوات داخل فرنسا مطالبة باتخاذ مسافة من السياسة الأميركية وأخرى تطالب بالخروج حتى من الاتحاد الأوروبي. وفرنسا مقبلة على انتخابات رئاسية من شأنها أن تترك القرار للشارع الفرنسي المنقسم.
أما عن المرشحين الفرنسيين للانتخابات الرئاسية فليس لديهم التوجه ذاته فيما يخص التحالفات الدولية والسياسات الخارجية لفرنسا. فمثلاً يطرح أكثر من مرشح في برنامجه الانتخابي الخروج من أوروبا، وكذلك هناك من يدعو للتفرد أكثر بالقرارات عن الولايات المتحدة ويتهم الرئيس ماكرون بعدم الوضوح فيما يتعلق بسياساته الخارجية.
وبررت أستراليا عملياً تراجعها عن الصفقة مع فرنسا لأسباب تقنية تفيد بأن الغواصات النووية تجعلها ذات قوة أكبر في حال حصلت المواجهة مع الصين، حيث أن الغواصات الفرنسية لا تعمل على الطاقة النووية. وأما عن المواجهة مع الصين فهي تعتبر الحرب المقدسة التي أعلنتها إدارة الديمقراطيين ورسمها الرئيس السابق أوباما. و طبعاً ردت الصين على الموقف برمته متهمة الولايات المتحدة الأميركية بتهديد الأمن والسلام العالمي.
وفي المحيط الهادئ تتجهز خطط عسكرية بين بعض دول آسيا وأستراليا وبريطانيا وطبعاً بقيادة الولايات المتحدة. ويتساءل بعض الأوروبيين إن كان ما زال هناك مكان لدول الاتحاد الأوروبي في هذا الحلف الجديد، أم أنه على أوروبا أن تقبل بالقرار الأميركي بتقليص دورها في العالم بأسره و ليس فقط في المحيط الهادئ.
ومن ناحية اقتصادية، كانت فرنسا تعتبر هذه الصفقة صفقة القرن حيث كانت تقدر ب ٥٦ مليار دولار، وبالتالي من شأن فقدان هذا المردود ليس فقط إضعافها بل إضعاف الاتحاد الأوروبي الذي يعتمد كثيراً على الدعم الفرنسي.
وتذكر الأزمة الأميركية الفرنسية بأزمة تاريخية سابقة حصلت عام ٢٠٠٣ حين دخلت بريطانيا بريادة الولايات المتحدة حرب النفوذ في العراق للإطاحة الديكتاتور صدام حسين واجتاحت العراق، يومها لم تكتفِ فرنسا بالرفض بالمشاركة عسكرياً مع التحالف وإعلان موقفها برفض عملية اجتياح العراق ، لكنها ساهمت أيضا دولياً عبر الفيتو في عدم موافقة مجلس الأمن في الأمم المتحدة على قرار أميركا باجتياح العراق، ما اضطر الرئيس الأميركي بوش الثاني لاجتياح العراق مع بعض الحلفاء دون الشرعية الدولية.
وكان الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك يلتزم يومها بخط التفرد بالقرار الفرنسي على نهج الجنرال ديغول، ولكن الشارع الأميركي اعتبر هذا الموقف الفرنسي عدائياً له، ومنذ ذاك الحين لم تغفر الولايات المتحدة لفرنسا موقفها لكونها تعتبر أن على حلفائها الالتزام بقراراتها دون نقاش.
ما هي العواقب المنتظرة ؟
لا يوجد أي موعد في الأفق بين وزير الخارجية الفرنسي لو دريان ونظيره الأميركي ومنذ أيام والصحف تتحدث عن مكالمة هاتفية ستتم بين الرئيس ماكرون و الرئيس بايدن لكنها لم تتم حتى هذه اللحظة.
كيف ستكون ردة الفعل الفرنسية والأوروبية في حال لم تتم مراضاة فرنسا وتعويضها عن الخسارة ؟ هل ستكبر القصة وهل ستتحول لصراع بين الحلفاء؟
و ماذا لو انسحبت فرنسا من حلف الناتو بسبب هاته الأزمة؟ هل سيبقى الاتحاد الأوروبي متحداً؟ و ماذا سيحصل للعالم لو اشترت الهند الغواصات الفرنسية كما قيل وهي لها تحالفات مع الصين؟ وماذا لو تغيرت التحالفات الدولية..؟
نحن نعيش منذ مدة ولأول مرة في تاريخ البشرية عصر القطب الواحد الذي تمثله الولايات المتحدة لكن هذا التسلط بات فيه خطر على السلام العالمي إذ أن ثمن الهيمنة الأحادية الكثير من الصراعات والحروب.