بين الأبيض والأسود.. حياة فنان سوري

القامشلي ـ نورث برس

يوسف عبدلكي، (بالسريانية: ܝܘܣܦ ܥܒܕܠܟܗ)،‏ فنان تشكيلي سوري ولد في القامشلي عام 1951 وحاصل على إجازة من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1976 وعلى دبلوم حفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1986 ثم الدكتوراه من جامعة باريس الثامنة عام 1989.

الكائنات الممسوخة

يقول عبدلكي والبالغ من العمر (70 عاماً)، والذي يقيم في دمشق، لنورث برس إن أشكاله المرسومة تحت وطأة الظروف والضغوط الكثيرة تغدو بلا صلة مع الإنسان، في إشارة إلى أنه “كلما تعرضت المنطقة لتهديد، زاد عدد الكائنات الممسوخة حولنا”.

ويقول أيضاً: “أسماكي متوحشة، مخيفة وأفواهها فاغرة. الأواني التي أرسمها وثنية وقديمة، تضيع مع حائط أسود، كحال المنطقة التي نعيش فيها، والتي نراقبها وهي تعود إلى الرجعية القديمة. ويضيف: كل ظاهرة حية هي معجزة مادية، ونحن نعيد اكتشافها، أريد إعادة ابتكار العالم وحمايته إلى الأبد من الإهانة. النهار سيتجدد، والليل أيضاً”.

بين الفن والسياسة

تفاعل “عبدلكي” مع القضايا السياسية. وكان عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري، منذ منتصف السبعينيات. فكان فناناً، وثائراً، ومناضلاً، وسجيناً سياسياً لعامين، حيث اعتقل في أيار/ مايو 1978 ضمن حملة استهدفت تصفية اليسار السوريقبل أن يُجْبَر على مغادرة وطنه إلى المنفى في باريس. كما اعتقل عام 2013.

وعن ثلاثية “أيلول الأسود”، كأول عمل سياسي له، يقول: “كان مشروعي للتخرج كطالب في كلية الفنون الجميلة في دمشق، وحملت هذه اللوحة عنوان ثلاثية عبدلكي أيضاً، وسرقت على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء اقتحامه لبيروت”.

ويضيف: “حاولت فيه تجسيد وعيي وفهمي في هذه اللوحة للمعاناة الإنسانية التي حدثت في أيلول/ سبتمبر عام 1970 مع الفلسطينيين، هذه المعاناة التي امتدت لكل من يملك ضمير. وأيضاً، حاولت الدخول إلى وجدان كل سوري. وأصبحت عندها حاضراً في المشهد الفني، لأعبر عن فن سياسي بطريقة رفيعة المستوى وعميقة الفهم، قدر المستطاع”.

التجريب الفني

لم يختر الفنان الحفر بشكل عشوائي، وكان سعى للتمرد من خلال أعماله الغرافيكية، وكان دائم الرفض للفن النمطي. وهنا كانت بدايات الفن التجريبي.

وفي الثمانينيات اشتهر بـ”أحصنة الجامحة”، التي عرضت في صالة الشعب بدمشق عام 1978. “كانت هذه الأحصنة الذهبية ككائنات أسطورية خاصة. كائنات الثورة، كائنات الحزن، كائنات الحب”.

عبدلكي بعد 2011

رغم واقعية عبدلكي، وفهمه العميق للتاريخ، وقدرته المدهشة على بث الحياة في الأشياء، إلا أن “كل الأحداث ما قبل الثورة السورية كانت قابلة للتلوين، أما المأساة التي حلت في سورية، فلا شيء يستطيع التعبير عنها”، كما يقول.

وعلى سبيل المثال، إن لوحاته التي احتوت شريط حذاء امرأة، أو الجمجمة، أو السمكة، لم تستطع التعبير عن المأساة التي حلت بالشعب السوري.

وأشار إلى أن “كل مأساة تقابلها ملهاة، لكن سوريا كالعادة تكسر القاعدة في كل شيء، فكانت مأساة خالصة، ولهذا انتقلتُ إلى رسم الأشياء بالفحم، ورسم الكاريكاتور السياسي”.

ويرى أن من واجبه كفنان ألا يفرّط برسالة الفن، رغم كل الظروف المعقدة اليوم. ورغم “التبريرات التي تعودنا على سماعها من أفواه من يخطئون، يبقى هنالك واجب أخلاقي فردي. لقد أعادتنا الحرب السورية إلى الوراء كثيراً. لذلك، أصبح همي اليوم وشغلي الشاغل هو الشأن العام، والتعبير عنه فنياً بلوحاتي”.

يقول: “في ذروة الأحداث السورية، أقمت معرضي الفردي في عام 2016، في قلب دمشق، وتهافتت التهم، بين عمالتي للنظام، أو مواجهتي للموت، أو محاولة انتحار عند عرض هذه اللوحات، وأعيد القول، لا أمل لبتر يدي أو يد الفن”.

ويضيف: “لم أعطي أهمية كبيرة سوى لوجوهي التي رسمتها. وكانت دمشق تفتقد لأي نشاط ثقافي منذ عام 2011. ومن خلال جسد الأنثى الذي تناولته في لوحاتي، حاولت، رغم كل الظروف، تمجيد استمرار الحياة رغم الديكتاتورية والحرب والموت”.

عبدلكي اليوم

مرسمه في ساروجة، هو مكان عمله الرئيسي. وفيه يعقد لقاءاته الاجتماعية والسياسية، لكن ثمة نشاطان يثيران الانتباه يقوم بهما عبدلكي في مرسمه.

الأول، وهو الشطرنج. ويقول عنه: “هذه الرقعة المسطحة، والقطع التي تمارس احتمالات لا تحصى، لها مستويان لا يقوم الواحد منهما بذاته، الأول صراعي، بين ثابت ومتحرك والثاني محدد بوضوح وتناسق. في هذه الرقعة البيضاء والسوداء، منطق رياضي صارم، ونقاط تجاذب وتنافر، لا تعد ولا تحصى، وهكذا الرسم أيضاً”.

والثاني، هو السينما، حيث يذهب مرة أو مرتين في الشهر، ومع العديد من رواد السينما، والطلاب والمثقفين والمخرجين، أمثال، محمد ملص والمخرج محمد عبد العزيز، وغيرهم.

ويضيف: “همي الأساسي من مشاهدة الفيلم السينمائي كمجموعة، ليس الفيلم بحد ذاته، بل النقاش الذي يدور عن الفيلم بعد عرضه، فهنا تكمن ميزة الشعب السوري، أي التنوع في الآراء والنقاشات، وحاجتنا اليوم لسماع الآخر”

يرى أحد النقاد أن الفنان عبدلكي، ربما كان أحد الفنانين السوريين القلائل الذي كسر كل المسافات الفاصلة بين الأجيال، بدءاً من الثمانينيات، وصولاً إلى الانتفاضة والحرب. لم يكن الشبّان والشابات الذين ولدوا في الثمانينيات بحاجة إلى إعادة تعريف ذاكرتهم الجمعيّة، أو حتى ضبط إيقاع أحلامهم ليعرفوا ما حدث خلال الثمانينيات القاسية، وما سيحدث في الغد.

إعداد: حنين رزق – تحرير: نور حسن