أبطال السلام في الإسلام

من هم أبطال السلام؟.. لو سألت أطفالنا الذين يتلقون المناهج السائدة عن أبطال التاريخ فلن يخطر ببالهم إلا أصحاب السيف والرمح، هم يتوثبون على خيولهم الصاهلة ينتقلون من حرب إلى حرب، ومن غزو إلى غزو، ولن يتردد الصبي في وصف بطولاتهم على الرغم مما فيها من أشلاء ودماء ومظالم، وسبي وغنائم، دون أي اعتبار لقيم الإسلام الأخلاقية التي تعتبر الإكراه في الدين عملاً أثيماً، وتدعو إلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وللأسف فإننا لا نأخذ على هؤلاء المحاربين الفاتكين مظالمهم بل هزائمهم، وهكذا نعيد تدوير العنف في حياتنا وحياة الأجيال الآتية من جديد.

أسماء الأبطال التي تقفز إلى الأذهان دوماً ويتلقاها الأطفال هي خالد وسعد والقعقاع وقتيبة وطارق وعقبة ومحمد بن القاسم وغيرهم من رموز الحرب والعنف، وما ارتبط بأسمائهم من معارك وحروب.

ولكن هل هؤلاء حقاً من يجب أن يكونوا في مكان القدوة؟ وهل بالفعل كانت سيرتهم بيضاء نقية، تستحق أن توضع أمام الأجيال الآتية كسيرة إمام تنسج من حياته الفضيلة؟.

من المؤلم أن خمسة من هؤلاء السبعة كانت حياتهم مضرجة بالدماء والعنف والبطش، وقد سجل لهم المؤرخون المسلمون سلسلة من المجازر والمقابر الجماعية وأشكال السبي والبطش ما تخجل منه الحياة، وقد انتهوا في سجون الخلفاء أو محاكمهم، ولم يكونوا في عين الأمة قدوة صالحة في شيء، ولكننا للأسف عدنا إلى عبادة القوة وتمجيدها وبات الرجل يمدح بأنه كسر ستة سيوف على رؤوس أخصامه الذين كانوا في الحقيقة أبناء الأرض يدافعون عنها ضد الغزو القادم.

فمن هم في الواقع أبطال السلام الحقيقيين في تاريخ الإسلام؟.

ليسمح لي القارئ الكريم أن أستعرض له عدداً من أبطال السلام في الإسلام، أولئك الذين غيروا مجرى التاريخ بعدالتهم ووعيهم ولم يتورطوا في مجازر ومقابر وسبي وغنائم.

بطل السلام الأول هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحين نستعرض جهاده السلمي العميق لبناء دولة المدينة سندرك عظيم إنسانيته، فقد كانت الهجرة إلى المدينة هي المحاولة الخامسة لبناء الدولة، بعد مكة والحبشة والطائف والحيرة، وقد حافظت على سلميتها وإنسانيتها في كل التفاصيل، ولم يذكر أي من كتاب السير المسلمين أو المسيحيين من الغربيين أو الشرقيين أن الرسول الكريم استخدم أي نوع من السلاح ولا حتى سكين مطبخ، واستمر كفاحه السلمي إلى حين دخوله المدينة واستقباله فيها من صبايا المدينة بالنشيد الخالد طلع البدر علينا من ثنيات الوداع؟.

وفي الغزوات والمعارك فإن ثمانية وعشرون معركة فرضت على الرسول الكريم، ولكنه استطاع بحكمته وتشوفه للسلام أن يمنع القتال في ثلاثة وعشرين منها، ولم يحصل الاشتباك الحربي إلا في خمسة منها، ومع ذلك فقد كان بأقل الخسائر.

لقد نجح الرسول الكريم بشكل لافت أن يكف شر الحرب، وأن يحول الحروب إلى مصالحات ومعاهدات من دون أن يقضي على القدرات الدفاعية للأمة.

أما عمر بن الخطاب، الذي اشتهر في المخيلة العامة للناس أنه رجل بطش وقسوة وحرب، فقد كان في الواقع أكثر الناس وعياً بالسلم ومطالب السلام، وتعدد مواقفه في رفض الحروب وتحويلها إلى سلام ووئام، وتشير بوضوح إلى موقفه المتميز في التعامل مع مشكلة  الردة بوعي سياسي مسؤول ونجاحه في إيقاف حروب الردة، ثم قيادته الرشيدة لتحرير الشام من الروم والعراق من الفرس، ووعيه الكبير بمنع انسياح الفاتحين في الأرض ومنع تحول الفاتحين إلى محتلين يأخذون أرزاق الناس وأراضيهم تحت اسم الغنائم، ويستعمرون الأرض والإنسان.

ونجح عمر بن الخطاب في تأمين القدس ومنحها موقعاً فريداً في التاريخ واحة للسلم والأمان والحوار، ومنع العسكر من الدخول إليها وأعاد تنصيب رجال الدين المسيحيين عليها في إشارة واضحة للدور الروحي والحضاري لهذه المدينة المقدسة.

ونشير هنا إلى الحسن بن علي رائد الوحدة الإسلامية وموقفه الباسل في وقف الحرب مع معاوية، وقيادة الأمة الإسلامية للخروج من الحرب والدخول في السلام، وهو ما استحق به بحق لقب عميد الوحدة الإسلامية.

أما الرابع من أبطال السلام الذي نشير إليه فهو التابعي الجليل عمر بن عبد العزيز الذي قاد كفاحاً فريداً خلال خلافته لوقف نزعة الحرب لدى الجيوش المرابطة وعمل على تحويل هذه الجيوش إلى قوى تنمية وبناء ودعوة.

وفي حياة عمر بن عبد العزيز وموقفه من الحرب معلومات غير مشهورة تبدو صادمة للقراء نجح فيها عمر في إيقاف الحروب على تخوم الصين وسحب الجيش الإسلامي من ساحات المعارك وإخلاء سمرقند وفرغانة والمدن التي فتحت قسراً وقهراً، ومحاكمة الفاتحين (محمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم اللذين توفيا قبل سنوات ومن جاء بعدهما) باعتبارهم محتلين غزاة.

ثم أمر بسحب الجيوش من حصار القسطنطينية وفتح حوار دبلوماسي مع الإمبراطورية البيزنطية قائم على الاحترام والعقل.

أما في الأندلس فقد أمر السمح بن مالك الخولاني بالخروج من الأندلس وتسليمها لأهلها، والقفول بالمسلمين إلى بلادهم، ومع أنه لم يتمكن من تحقيق ذلك خلال حياته القصيرة، ولكن هذا الموقف يكشف بعمق عن براعة عمر بن عبد العزيز بأصول الدبلوماسية الناجحة، وتشير بوضوح إلى نجاحاته المتتالية في بناء احترام كبير للإسلام في العالم.

ولعل من أبطال السلام في العصور الأولى الخليفة الأموي الثاني في الأندلس الحكم المستنصر الأموي وهو أزهى عصور الحضارة الإسلامية في الأندلس، وقد كان دوره الرئيس في تأمين السلم الدولي وبناء علاقات دبلوماسية ناجحة بين أوروبا والعرب، وتمهيده لأعظم عملية تكامل ثقافي ومعرفي بين الحضارة الإسلامية والمجتمع الأوروبي.

أما الخليفة الذي كان أحرص الناس على حقن الدماء ووقف الحروب فهو الخليفة الناصر العباسي الذي ولي الخلافة  545-622 هجرية وعاش خليفة لمدة 47 عاماً تعتبر أطول فترة حكم في التاريخ الإسلامي.

لقد نجح الناصر العباسي في وقف الحرب الشيعية السنية التي كانت تتعاقب تأثيراً وعنفاً منذ العصر الأموي، والتي زادها البويهيون والسلاجقة اشتعالاً، واستطاع الناصر العباسي أن يقدم نموذجاً مختلفاً للإخاء السني الشيعي وشيد بمال الدولة مرقد موسى الكاظم ومرقد الفقيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم في المكان نفسه وأقام أكبر محج عاطفي لأهل العراق بمرقد مزدوج سني شيعي لا زال من أكبر معالم الوفاق والإخاء في العراق الجريح.

ولكن عبقرية الناصر في وقف الحرب كانت بلا حدود فقد استطاع أن يجنب الخلافة آثار المواجهة الطاحنة المفروضة من العدوين التاريخيين للإسلام المغول من الشرق والفرنجة من الغرب، وقد استطاع أن يؤمن حدود الخلافة وأن يواجه أطماع الفرنجة بصلاح الدين الأيوبي دون أن يزج بالخلافة في أي من هذه الحروب.

وفي سابقة دبلوماسية ليس لها نظير نجح الناصر في التفاوض مع جنكيز خان الذي كان يجتاح العالم آنئذ وعقد معه اتفاقيات هامة وعميقة، تضمنت فيما تضمنت إصدار عملة مشتركة بين الإسلام وبين المغول تشتمل على صورة الخليفة الناصر وصورة السلطان جنكيز خان، وبذلك جنب بغداد حرباً ضروساً طاحنة كان يمكن أن تبيد كل شيء، وللأسف فإن ما نجح فيه الناصر مطلع القرن السابع الهجري فشل فيه حفيده المستعصم عام 656 حين فشل في حماية بغداد عسكريا ودبلوماسياً وسلمها للجيوش المغولية الفاتكة في أسوأ اجتياح دموي في التاريخ الإنساني كله.

إنها محاولة نقترب فيها من عدد من أبطال السلام في الإسلام، ومن المؤسف أنهم على شهرتهم لا يقدمون للناس على أنهم أبطال سلام وقد صار من تقاليد الحديث عن الخلافة أن نشير فوراً إلى محاركها ومحاربيها وقد ذهب المؤرخ المسلم للأسف إلى إذكاء نار الحمية عن طريق رواية مقاتل الخاسرين، وحجم جماجمهم حين دخل الفاتحون كما لو كان عدد القتلى دليلاً على جدية الرسالة وتطبيق مبادئها.

المشوار طويل في استخراج أبطال السلام من صفحات التراث فهذه الصفحات الآن محجوزة بالكامل لدعاة الحرب والصراع، ولم تنجح دراسات حقيقية بعد في إحياء دور أبطال السلام في التاريخ الإسلامي.

ذات يوم سينصف العالم عمر بن عبد العزيز ورابعة العدوية والباخرسي والبيروني ورشيد الدين االهمداني والملكة أروى الصليحية والحكم المستنصر والناصر العباسي والملك الكامل الأيوبي والحسن بن علي ومئات من غيرهم من رموز السلام والعلم والمعرفة في الإسلام، وستنصب لهم التماثيل في بلاد الإسلام كرجال دولة حقيقيين نجحوا في إقامة السلام ووقف الحرب.