النمطية للأقليات السورية: لدينا ذيل مخبأ ونأكل البشر أحياناً

تحقيق: حازم مصطفى

الرجل القوي هو الذي لا يبكي، والأب مسؤول وحده عن توفير مصدر العيش وﻻ يتوجب على المرأة اﻷم مشاركته في ذلك، كما أن المرأة اﻷم، هي المسؤولة وحدها عن البيت والأبناء وتربيتهم وقضاء الوقت الأكبر معهم ﻷنها صاحبة عاطفة، وﻷنّ الرجال فاشلون في الأمور المنزلية، ويؤكّد ذلك أنّ النساء لا يجدن القيادة.

يمكننا بالطبع أن نضيف إلى هذه التصورات أو الصور الشائعة بين الناس أمثلةً كثيرة، فهناك دائماً في علم النفس الاجتماعي ما يعرف بالصورة النمطية، أو التنميط، أو القولبة، وهي تعني تبسيط الأفكار وتعميمها للحصول على حكم مسبق ثابت يطلق بشكل فوري وسريع كقالب على أي مجموعة أو مجتمع أو فئة لمجرد اشتراكهم في أمور ثابتة، كالنوع أو الأصل أو الجنس وغيرها.

يواجه كسر الصورة النمطية لدى اﻷكثريات عن اﻷقليات مشكلات مضافة، ويواجه بكثير من التحديات بالنظر إلى أن التأثير هنا يمكن القول إنه أحادي الاتجاه من قبل الطرفين معاً دون لقاء بينهما، ودون جرأة على كسر هذا التابو القابع في اللاوعي الجمعي للناس.

يذهب الشاب “محمد إبراهيم”، طالب الطب في السنة الرابعة في جامعة تشرين في مدينة اللاذقية الساحلية، إلى أن تلك الصور تمتد إلى الشعوب نفسها، فهناك “شعب شغّيل مثل اليابانيين، أو ما يسميه الكثير من السوريين “كوكب اليابان”، وهناك شعب “عابس” مثل الألمان، وشعب يدور في المترو في باريس فقط ﻷجل السرقة، وهناك الخليجي الذي يملأ البارات حول العالم.

ويتسع التعميم أحياناً ليطال عدداً من الدول مع بعض، مثل المقولة الشهيرة إن “الشعوب الغربية كلها منحلة أخلاقياً”.

لا يعرف الشاب مصدراً معروفاً لهذه التصورات، فهو قد سمعها من أصدقائه وأهله ومن آخرين التقاهم عبر مسيرة حياته.

وحين نسأله عما يعرف من تصورات حول السوريين أنفسهم، يضحك، ويقول: “في الساحل، وربما في سوريا كلها، يُعرف السوري بأنّه حربوق، بمعنى أنه شخص ذكي وشاطر وقادر على التعلم واﻹنتاج إذا توفرت له فرصة”.

يضرب الشاب مثلاً ما فعله هؤلاء في أوروبا بعد الحرب حين أتيحت لهم فرص اﻹبداع الحقيقي.

لكن هذه الصور تثير سؤالاً عن عملية تشكيل هذه النمطية غير الدقيقة، ويعترف المهندس “أحمد” من العاملين في مرفأ طرطوس أنّ اﻷرجح، أن “هذه الصور نتجت عن احتكاك قديم، وأنّ تشكلها عملية معقدة تاريخياً”.

يضيف: “الكثير منها موروث اجتماعي تراكمي أنتجته عمليات الاحتكاك اﻷولى بين الشعوب نفسها، أو بين أفراد من هذه المجتمعات أطلقت أحكامها القطعية تلك بشكل يصعب ضبطه فعلياً، أو يصعب تقدير من البادئ فيه، أو أنه ناتج مثلاً عن تأثيرات ممتدة من السينما إلى المسرح إلى الثقافة الشفوية والمكتوبة”.

تنقسم هذه الصورة النمطية الشاملة المنتشرة في العالم العربي إلى صور جزئية حين يصير الحديث مرتبطاً بمن يقصد بالضبط في هذه الصورة، فمن هو السوري المقصود مثلاً بالصورة التي تقول إنه “حربوق”؟ هل هو الشامي أم الحلبي أم الكردي أو ابن السويداء أو ابن الساحل، مع ما يعني ذلك بالضرورة من إسقاطات دينية وأخرى قومية يتهرب منها بعض من سألناهم مصرين على التعامل مع السوري بصورته الأشمل التي تختزنها ذاكرة ما قبل الحرب.

“الشامي حين تطلب منه مثلاً أن يدلّك على عنوان أو مكان، يعطيك عنواناً معاكساً، أو يدلّك على المكان الغلط”، تقول “سهام”، وهي طالبة طب سنة رابعة في جامعة تشرين، نسألها هل جربت ذلك في رحلاتك أو عيشك في دمشق؟ تنفي ذلك، وتقول إنها قد سمعت ذلك من العديد من اﻷصدقاء دون أن تتأكد شخصياً من هذا اﻷمر.

نسأل الفتاة ما هي صورة “الحلبي” في ذهنها، فتجيب: “إنه شغيل وصرّيف”، “يعمل طوال الأسبوع، وفي يوم العطلة يصرف ما أنتجه على الأكل أو على النسوان”، أما المرأة الحلبية فهي “مشلشلة بالدهب” ولا تعمل، و عايشة عيشة ولا باﻷفلام”..

هذه الصور تبقى على السطح هي اﻷكثر انتشاراً، ولكن تحت السطح المجتمعي فإنّ هناك صوراً أخرى أسوأ من ذلك بكثير، وبين اﻹنكار بوجودها والاعتراف غير العلني، تقول السيدة “منال” موظفة في القصر العدلي في اللاذقية، إنها موجودة ولكن لا يتم تداولها في الأحاديث العامة، بل في اﻷحاديث الخاصة ضمن البيوت أو الجلسات الخاصة، “على سبيل المثال”، تقول منال: “هناك صورة نمطية تقول أنّ الكردي عنيد، أي كردي هو شخص عنيد، امرأة أو رجل، “تنا، تنا”، وهذه العبارة التي يتم تداولها على المستويين العام والخاص، هي كلمة تعني الرفض ﻷي أمر لا يقتنع به الشخص الكردي.

تقول منال الحائزة على شهادة الحقوق من جامعة حلب: “لقد عاشرت أثناء دراستي في حلب الكثير من الكرد، وكانوا مثلنا بمعنى أنهم يرفضون ويوافقون على الكثير من اﻷمور، وليسوا جميعاً بهذه العقلية المتحجرة، لدينا أعند منهم في حياتنا اليومية، وهذه الجملة “تنا تنا” باتت تشير إلى العناد بشكل عام.

تظهر الصور النمطية بشكل أكثر سوءاً في اﻷمثال الشعبية التي يطلقها الناس على اﻷحداث أو الأفراد أو المحكيات اليومية، وهذه اﻷمثال، لا يتم استخدامها بشكل علني في الغالب، إذ أنها تثير الحساسية والمشاكل بين الناس إذا طرحت في مكان عام.

“عامل حالو أبو علي”، “وراسو عنيد مثل الرافضي”، تقول السيدة ميّادة (48 عاماً)، من منطقة إدلب وتعيش في اللاذقية، إنّ هذه اﻷمثال يتم قولها في منطقتها، ولكنها في اللاذقية لم تستخدمها يوماً، لكنها تستخدم ما يوازيها، مثل “عدو جدّك ما بيودّك”، وحين نسألها من هو عدو جدّها، تقول: “كان العثملي، ثم صار الفرنسي، وبعدين كتروا اﻷعداء”.

تضيف السيّدة أنّ هناك تصورات أكثر سوءاً، منها على سبيل المثال، القول إنّ الطائفة الفلانية لديها ذيول تخفيها تحت ثيابها، وعدم ذكر طائفة محددة هنا، سببه أن هذه العملية متبادلة بين الطوائف، وكل طائفة تقولها عن “عدوّتها” التاريخية، ولا يعرف مصدر هذه الصورة النمطية بالتأكيد، ولكنها منتشرة في الخطاب الخاص بكل منها دون أنّ تقول إنه يستهدف الطائفة المقابلة بأي شكل في ممارسة يمكن القول إنها “تقية مجتمعية”.

تتعزز شدة الصور النمطية بشكل كبير إذ دخلت ما يسمى في المجتمعات “المبادئ السامية” التي ترتبط باﻷخلاق أو العلاقات البشرية أو اﻷديان، أو اﻷعراق نفسها منذ سنين طويلة، ومن الخطورة بالطبع المساس بهذه “المحرمات”، فكيف إذا كان ورائها من يسمّون سدنة الهياكل الذين يقصد بهم بعض رجال الدين من أصحاب المصلحة في أي توتر بين الشعوب واﻷفراد دون تعميم “نمطي” أيضاً.

تقول ميّادة إنّ هناك أمثالاً عن المسيحيين يطلقها مسلمون أو بالعكس، تهدف إلى الضرب ببعض، وتقول بضرورة الحذر من اﻵخر، والتقليل من قيمته اﻹنسانية والحضارية، رغم أن هناك كثيراً من العادات والأمثال نقلها المسلمون عن المسيحيين الأقدم تاريخياً في المنطقة بعد تحريف مناسب لها.

“تغدّى عند اليهودي، ونام عند المسيحي”، تشير السيدة إلى أنّ هذا المثل الذي يعطي صورة نمطية شائعة دون وجه حق يعني أنّ المسيحي شخص آمن، واليهودي غدّار، والمسيحي غير نظيف واليهودي نظيف، وتنتشر هذه الصورة بشكل فوقي بين سكّان المدن والريف على حد سواء، “في منطقة الجسر، جسر الشغور وحارم،  تستخدم للحط من قدر المسيحي بالدرجة اﻷولى”.

غيّرت الحرب السورية بعضاً من هذه الصور النمطية، وعزّزت بعضها اﻵخر في ظل اتجاه الأطراف المتحاربة في سوريا لتشويه صورة بعضها بعضاً، ولم يترك أياً منها فرصة لتشويه صورة اﻵخر إلا وذهب إليها منتقماً بذلك من تاريخ طويل من اﻹقصاء والمنع والعلاقات الصفرية بينها على الصعيد الاجتماعي والنفسي.

“متوحّش، وقاتل ومستشرس، شبيح، سارق”، هذه الصفات مثلاً باتت تطلق بتعميم مقصود على الطائفة العلوية في سوريا، بالمقابل، تطلق الطائفة العلوية على الطائفة السنية ألقاباً أخرى لا تقل سوءاً: “خونة، عملاء، أكلي أكباد (في إشارة إلى هند بنت عتبة التي لاكت كبد حمزة بت عبد المطلب، وفقاً لبعض الروايات الإسلامية)، ويتم تعميم هذه الصفات أيضاً دون ممارسة أي نوع من أنواع الفصل أو التدقيق اللفظي أو الحياتي أو غيره.

لا يقتصر إطلاق هذه التعميمات النمطية على اﻷفراد قليلي الثقافة أو الاحتكاك باﻵخر، فهنا على ما يظهر فإنّ “المستوى التعليمي والثقافي والمستوى المادي والأصل والفصل لا يمكن أن تنأى عن ممارسة عادة التنميط  واستخدام القوالب الجاهزة للصور النمطية من قبل الأفراد المكونين للمجتمعات التي ينتشر فيها التنميط، مثل المجتمع السوري” كما يقول الدكتور “أحمد الإبراهيم” من كلية اﻵداب في جامعة تشرين، “فمع الأسف يواجه كسر هذه الصور بالكثير من التحديات، لأنها تعتمد بشكل أساسي على تغيير فكرة الشخص نفسه، والتي تكوّنت على الأرجح على مدى سنوات تجاه عادة أو فئة أو مجموعة أو جنس معين”.

 يضيف الدكتور “إبراهيم” أنّ “هناك أيضاً غياب العوامل المساعدة في العمل على القضاء على صورة نمطية معينة أو فكرة التنميط بشكل عام، مثل وسائل الإعلام المنتشرة خاصة في مجتمعاتنا”.

عززت الحرب كثيراً من الصور النمطية للآخر في الذهن السوري، وساعد على هذا التعزيز السياسات التي اتبعتها الأطراف المشاركة في الحرب نفسها، لكن دور النظام السياسي السوري عبر العقود الفائتة كان له الحضور اﻷكبر في ظل ممارسة نوع من القطيعة بين السوريين وجعل حياتهم أقرب ما تكون إلى جزر منعزلة بين بعضها البعض، مع قطيعة في النظام التعليمي نفسه ساهمت هي اﻷخرى في تعزيز القطيعة بين المكونات السورية.

يشير الدكتور “إبراهيم” إلى أنّ هناك حاجة ماسة لتغيير نوعية العلاقات التي سادت بين الناس قبل الحرب الحالية، والحل “لا يمكن أن يعتمد على الدولة وأجهزتها بقدر اعتماده على تغذية المجتمع المدني والجمعيات الثقافية والفنية التي تتولى تغيير هذه الصور عبر تقديم الشريك السوري كما هو بعيداً عن الحالة النمطية التي تصادر العلاقات بين البشر بطريقة مؤذية”.