لا بد أن نقر بفشل سوري عام، ليس فقط في الثورة أو في إدارة التغيير بل أيضاً فيما يخص نهج كافة الأطراف السورية المعنية بالصراع الحالي. الجميع فشل بالنهوض بسوريا وهذا ليس عملاً عمره عشر سنوات فقط بل هو استنتاج لمحصلة ركود وتأخر عن عجلة التطور على كافة الأصعدة وهو يعود لخمسين عاماً مضى.
وقبل الثورة الفاشلة كان لدى النظام داخلياً كافة الفرص لصناعة دولة مؤسسات لترسيخ واستقرار مؤسسات الدولة لجعلها منظومات مستقرة ثابتة إدارياً, ومستقلة عن الأفراد والأشخاص, لكن بشار الأسد لم يستطع فعل هذا.
ورغم إحاطته نفسه بتكنوقراط في البدايات، لم يتمكن من إحداث النقلة النوعية التي صنعها ملك المغرب مثلاً, الذي استبدل إرث أبيه العنيف بتغيير عميق لأسلوب الحكم والادارة أولاً، وثانياً بانتهاج سياسات عميقة تحديثية كان من شأنها رفع مستوى الأداء الإداري للحكومة وبالتالي إرضاء الشعب.
غبي من يظن الشعوب غبية. اليوم تزاحم المغرب جامعات الغرب لاستقطاب طلابها النوابغ المتعلمين بمستوى نخبوي والذين يتحدثون ثلاث أو أربع لغات. ولم يحتج ملك المغرب لإبادة الإسلاميين ولا لشن حرب على المتطرفين ولا لقتل أحد ولا لسجن أحزاب المعارضة ومنعهم من النقد؛ بل أحاط نفسه بمراكز دراسات لسياسات نهضوية استوردها من الخارج بدايةً, قبل ان يستقطب الأدمغة المغربية من الخارج لإعادتها للوطن.
احترم شعبه ولم يتعامل بعنف مع الإسلام السياسي، أي ترك للإخوان المسلمين هامش ديمقراطية وتعبير؛ فترأسوا الحكومة لأكثر من عشر سنوات وتصرف بحكمة وصبر مع معارضيه الذين أرضاهم وعوضهم قدر الإمكان عن التعذيب الممارس ضدهم في عهد أبيه، وسمح لهم بأن يسردوا قصص التعذيب والعنف لمعالجة سيكولوجية عامة للمجتمع في التلفاز والصحف، وأبدت حكومته اعترافها بالمظلومية والمعاناة وسمح لهم بأن يحاسبوا الدولة المسؤولة عما حصل لهم كمواطنين عبر محاكمات وتعويضهم مادياً واعتذر بهذا عملياً من الشعب.
هو الآخر ورث فساداً في الدولة، وطبعاً ما زال لديه فساد, لكنه فهم أنه لا يوجد حاكم بيده عصا سحرية لتغيير تركيبة الفساد المعقدة في أي مكان في العالم. فما كان منه إلا أن رسم استراتيجية واضحة للإحاطة والتعامل مع الفساد وتحديد هوامش وخطوط حمراء تحمي المواطن والوطن.
وفي سوريا ما قبل الثورة، كانت البلد قد وصلت اقتصادياً لطريق مسدود لم يكن يتوقع فيها أقل من هذا الانفجار؛ ولم يتمكن بشار الأسد من كف يد أحد ولا ضبط أصغر ضابط أو قريب له من ممارسة الفساد الممنهج . هاجرت الأدمغة وانحدر مستوى التعليم المحلي وأصبحت الجامعات لا تؤهل إلا لوظائف ثانوية في الخليج. الخليج الذي استمر باستيعاب اليد العاملة الموفدة إليه من الدول الفاشلة في سوريا والعراق ولبنان.
نعم هي دول فاشلة بكل معنى الكلمة ولا يحق لنا أن نلوم إيران وتركيا والسعودية وقطر كما يحلو للبعض، وحتى إقحام الأديان ومفهوم الأقليات وحقوقها هنا لا شأن له, فالأزمة في سوريا ليست أزمة أقليات وأغلبيات.. بل هي نتيجة سوء إدارة وجهل القائمين على إدارة البلاد، هذا ما أوصلنا إلى هنا.
الطبيب ليس مؤهلاً للإدارة بالضرورة. الطب مهنة محترمة تستدعي تعلماً تقنياً وعلمياً متخصصاً بجسد الإنسان فقط، فلا تدرس جامعات الطب تاريخ الحضارات ونظريات الاستراتيجيات الإدارية وخطط التطوير الخماسية والمئوية، ولا تدرس في جامعات الطب علم إدارة المنظمات ولا تاريخ إنشاء المؤسسات ولا قوانين المؤسسات ولا الدساتير ولا حتى كيف تكون مكافحة الفساد وعواقب ترك البلاد للفوضى والعصابات المافيوية القبلية التي تنهش بعمق الحكم السوري.
هذا “الدكتور” لم يكن يعرف الفارق الثقافي بين المجتمعات القبلية التي تقوم على الانتماء العصبي لفئة ما بالقرابة، والمجتمعات ذات الثقافة الأكثر فردية التي يبنى الحكم فيها بطريقة استراتيجية، ويسمح للقائد فيها بالعمل مع فريق مؤهل لرسم استراتيجيات عمل لـ30 أو 50 عاماً.
التخلف الإداري هو ما أوصلنا إلى هنا.. لكن البنية الفكرية للسياسي السوري متشابهة لحد بعيد في النظام والمعارضة, كلاهما يعتبران السياسة فناً حديثاً وخطاب وعلاقات اجتماعية وفساداً إما حزبي أو قبلي، وعقلية الأحزاب تشبه العقلية القبلية فلا هامش فيها للموضوعية.
ولا أحد يعتبر أنه قبل الولاء للأحزاب هناك ضرورة رصد الكفاءات لرسم الاستراتيجيات، وأما عن تقييم الكفاءات فهو علم لم يدرس بعد في سوريا التي يكتفي شعبها باحترام الألقاب بخشوع.
لكن بالنهاية, لا أحد معني غير السوريين بالنهوض بسوريا، هذا على كافة خلافاتهم ورغم حقدهم على بعض، إيران التي تدخلت في سوريا ولبنان عسكريا كأي دولة غيرها, لا تملك المقومات ولا حتى الإمكانات للنهوض لا بلبنان ولا بسوريا فهي ترصد كفاءاتها الإدارية والاستراتيجية لإدارة شعبها, وأما علاقاتها خارج إيران فهي فقط لخدمة النفوذ الوطني الداخلي لديها.
وتحارب إيران في سوريا لنفوذها فتسلح وتشتري ذمماً وتدعم من يقف معها في حرب النفوذ، ولكنها لن تبني وطناً لأحد، ولا أحد معني ببناء أوطان الغير كما أوضح “بايدن” حين ترك أفغانستان. كذلك التمويل السعودي أو القطري أيضاً لن يكون أكثر من سلال غذائية للجياع.
والشعب السوري يعيش منذ عشر سنوات على السلال الغذائية والصدقة العالمية، وسوريا بلد مشلول منذ 50 عاماً, مبعد عن إمكانية تطوير أي قطاع منتج جدياً لديه ومشغل لليد العاملة.
اكتفى حافظ الأسد بإرسال نصف شعبه للخليج ليعمل أو يُنفى. واكتفى بإرسال طلاب الطب والهندسة أيضاً للخارج، ليعيش شعبه على الأموال التي يرسلها هؤلاء الأبناء لأهلهم الذين لا تقاعد ولا دخل لهم، فامتهن ابتزازهم وانشغل هو بالتفكير بالنفوذ في لبنان والمنطقة ونسج التحالفات الميكافيلية التي لم يكن من شأنها خدمة المصالح السورية العليا بل إشعال الفتن.
الذكاء الذي تميز به حافظ الأسد وفهمه لتوازن القوى العالمية لم يأتِ بأي فائدة وطنية تذكر لسوريا، ففي عهده حصلت مجزرة حماة وهولوكوست تدمر، واستعملت كافة أنواع التعذيب ضد الشعب الذي جاع وذل، بعدما كان معتزاً فخوراً بانتماءاته المتعددة.
نسج الحزام العربي ضد الكرد وأشعل الفتن داخل المجتمع السوري زارعاً الكراهية بين السنة والعلويين، وسوّق الجحيم هذا على أنه حماية أقليات، ولكن الشعب كله أصبح فيما بعد أقل من أقليات, كما لم يحمِ أياً من الأقليات بل هاجر في عهده غالبية المسيحيين لكون البلد لم تعد مستقرة ولم يعد يتوفر فيها عمل.
هذا ما ورثه بشار الأسد عن أبيه, وهو حقاً لم يجد أي طريق أمامه لتغيير حجم هذا الإرث الدموي المرعب، فتزوج من سنية وحاول إرضاء تجار السنة وأفسدهم بإشراكهم بما كان حكراً للضباط العلويين وأرضى فئة المنتفعين, وجرب شراء الصمت بالدين، مرضياً تجار الدين الشعبويين، ومضحياً بنساء الوطن وبنهج التطور الاجتماعي السوري. وهكذا كان له السلام الاجتماعي لمدة 20 عاماً قضى فيها على كافة حركات المعارضة والتوجهات الإصلاحية.
هذا الإصلاح كان قد نصح به الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك بشار الأسد، وقد يقول البعض إنه لم يسمع..
لا، هو سمع لكن لم يكن بيديه أي مقومات للتنفيذ أو لرسم استراتيجيات تغيير جادة, وحين نظر حوله لم يجد أي مقومات محلية للتغيير، لم ير إلا إرث والده الثقيل وعناد وجهل وعنف فريق الحكم الموروث من ضباط الطائفة، ولم تقدم له أي دولة مساعدة حقيقية لتمكينه من إدارة التغيير المطلوب, فحافظ الأسد لم يفكر حتى بإرثه.
خوطب لبشار الأسد خارجياً، لكن لم يقدم له أحد أدوات العمل كما فعلوا مع غيره، في الواقع لا أحد يعلم ما إن كان هو رفض المساعدة أو أن الفريق الحاكم حوله فعلياً لسوريا لم يسمح له بهذا. لكن هذا التغيير المقترح لسوريا كان منذ ذاك الوقت ملحّاً وعاجلاً.
هل يمكننا القول إنه لا أحد معني بتطوير سوريا؟ ربما، لكن عدم القبول بنصائح التغيير وعدم انتهاج التغيير لا يبرر الوحشية التي انتهجها في مواجهة الاحتجاجات، ولا شيء يبرر أنه حين كان مخيراً بين قتل الناس والسلام معهم ومناقشتهم رفض الحوار. بالنهاية يبدأ التطور في دول العالم الثالث بتطوير المؤسسات وبإحداث الاستقرار العام لتنشيط القطاع العام والخاص وهذا لا يمكن أن يستورد ولا أن يأتي عن طريق الصدفة. الجميع يتفق في سوريا من معارضة ونظام على ضرورة الخروج من المأزق ولا أحد وطني أقل من أحد, ولكن الكارثة اليوم تكمن في انعدام الثقة والموضوعية في التعامل من قبل كافة الأطراف