نظام يتمحور حول الرئيس

لقد ختمنا إحدى مقالاتنا السابقة بسؤال مفتوح يشكك بقدرة النظام على تحقيق ما يطالب به من إعادة سيادة الدولة السورية على كامل جغرافيا البلد، ورجحنا احتمال أن يكتفي بالسيطرة على ما يسمى بـ”سوريا المفيدة”. يستند ترجيحنا للاحتمال الثاني إلى فهم طبيعة النظام، ومركزية الرئيس فيه، وعدم قبوله لأي مساومات سياسية تفضي إلى تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بالأزمة السورية، وخصوصا القرار2254.

في الأنظمة الديمقراطية الرئاسية يشغل الرئيس مركز السلطة التنفيذية أيضاً، يؤدي دوره بصفته هذه، لكنها هنا مركزية قانونية، كل جانب من جوانبها يحدده قانون، ولا يستطيع الرئيس تخطي الحدود التي يرسمها له القانون. وهي قبل كل شيء، مركزية مفوضة من قبل الشعب، يمارسها تكليفاً.

غير أن مركزية الرئيس في الأنظمة الاستبدادية، خصوصاً من طراز النظام السوري( النظام المنبثق من رحم ما يسمى بالشرعية الثورة)، تختلف كثيراً عنها في الأنظمة الديمقراطية، فهي مركزية يتحدد دور الرئيس فيها ببناء السلطة واستقرارها وديمومتها لتحافظ بدورها على موقعه فيها، إذ أن العلاقة بين الرئيس والسلطة علاقة اشتراط متبادل.

في النظام الاستبدادي السوري يندمج الرئيس بالسلطة، التي بدورها تتغول في الدولة والمجتمع، بحيث يصعب الحديث عن دولة، بل عن سلطة متغولة، وإن إسقاطها كان من المرجح أن يتسبب بانهيار الدولة والمجتمع على حد سواء، كما حصل في ليبيا والعراق واليمن.

معلوم أنه منذ أن سيطر الرئيس الراحل حافظ الأسد على السلطة في سوريا في عام 1970، جعل من نفسه محور النظام برمته، منه وإليه تنتهي جميع علاقات النظام الداخلية، وترابطاته، وحتى أشخاصه. فهو لم يسمح طيلة فترة حكمه التي امتدت نحو ثلاثة عقود ببروز أية شخصية من شخصيات النظام، إلا بالقدر الذي يريده هو، ولأداء الدور الذي يطلبه منه، دون أن يؤثر ذلك على محورية موقعه، ودوره في النظام برمته، الذي يكثفه مصطلح “قائد المسيرة”.

من الناحية الإجرائية العملية بنى حافظ الأسد نظامه على أربعة دعائم أساسية هي: أولاً؛ منع أي حياة سياسية طبيعة في سوريا، بما في ذلك في حزب البعث ذاته، وفي الأحزاب المتحالفة معه، إذ تم تحويلها إلى مجرد أجهزة للسلطة. وثانياً؛ تقوية أجهزة الأمن والجيش وربطها به شخصياً. وثالثاً؛ التحالف مع البرجوازية السورية، وخصوصاً البرجوازية الدمشقية والحلبية. ورابعاً التحالف مع رجال الدين وخصوصاً السنّة. وفي توزيع للأدوار غير معلن، لكنه معلوم، فقد أوكل للأجهزة الأمنية والعسكرية مهمة الحفاظ على النظام بالمعنى المباشر، ومن أجل ذلك فقد منحها امتيازات واسعة، وأصدر قوانيناً تحول دون مساءلتها عما ترتكبه من مخالفات، مما سمح لها بالتدخل في جميع مفاصل الدولة والمجتمع. إضافة إلى ذلك فقد ركز في بنائها على الحضور المكثف والواسع فيها للعناصر الموالية له عضوياً.

إن نمط الحكم الذي بناه حافظ الأسد لا يستمر بالوجود، بدون محورية موقع ودور الرئيس فيه، وهذا ما عمل الرئيس الابن على تحقيقه في عام 2005 بعد أن أزاح جميع رجالات والده من السلطة، والإتيان برجاله الخاصين.

نظام مبني بهذه الطريقة، لا يقيم أي وزن للشعب، الذي هو بالنسبة له ليس أكثر من دهماء تملأ الشوارع، عندما تؤمر بذلك، ليعلو صراخها “بالروح بالدم نفديك يا ….”، من الطبيعي أن لا يتوقع أن ينتفض ضده، وعندما انتفض بتحفيز شديد من انتفاضات الشعوب العربية في تونس ومصر واليمن وغيرها، وبتأثير عوامل تدخلية خارجية باتت معلومة، جاءه الرد العنيف، في استدعاء وظيفي لدعائمه الأربعة السابقة الذكر لتؤدي دورها، فأدته بأمانة إلى حد كبير.

اللافت في شعار “حملة” الرئيس الانتخابية الأخيرة تركيزه على العمل، دون أي وعود بإجراء إصلاحات على نظامه السياسي. وقد خاب رهان البعض من الموالين على خطاب القسم أمام مجلس الشعب، فهو لم يلزم نفسه بأي وعود. إن رئيساً رفعه مناصروه إلى مستوى القداسة يصعب عليه بداية أن يقوم بحملة انتخابية كما يفعل المرشحون عادة في مثل هذه المناسبات، وتالياً يصعب عليه إلزام نفسه بأي وعود كما أكدت ذلك مستشارته الإعلامية لونا الشبل.

واللافت أيضا في خطاب المرشحين الآخرين خلوه من أي نقد مباشر للنظام القائم، ومن مطالب واضحة وصريحة تتعلق بتعديل الدستور الحالي، كما فعلت المرشحة السابقة فاتن نهار. ركز المرشح عبد الله على محاربة الإرهاب العسكري والاقتصادي. في حين ركز المرشح محمود مرعي في بيانه الانتخابي على قضايا سياسية مثل ضرورة التوصل إلى عقد اجتماعي جديد يؤمن فصل السلطات، ويسمح بتفعيل دور المرأة، والمجتمع المدني، كما طالب بالإفراج عن المعتقلين وغيرها من قضايا، وهي عموماً قضايا محقة. لكن بيانه خلا من أي رؤية اقتصادية سواء ما يتعلق منها بكيفية إعادة الإعمار أو بالحلول للمشاكل الاقتصادية التي يعاني منها المواطنون. كما خلا برنامجه من أي حلول للأزمة الوطنية وإعادة توحيد سوريا أرضاً وشعباً.

ومن الطبيعي في مثل هكذا نظام أن لا يقبل بأي نوع من الرقابة الدولية على انتخاباته بذرائع واهية من قبيل عدم السماح بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلد ومنع المساس بالسيادة الوطنية.