الجولاني إذ يستلهم يقينه من تجربة طالبان

شورش درويش

عزّز انتصار طالبان من يقين زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، لجهة حتمية تكرار الصورة الأفغانية في سوريا، وذلك في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة الإندبندنت – النسخة التركيّة، حيث أنّ خياله، أو يقينه أوصله إلى توقّع سقوط سوريين من طائرات الأميركان والروس على غرار ما حصل في مطار كابل، وهذا اليقين الممزوج بالسخرية الفجّة جاء في لحظة تمنّي الجولاني أن تصبح سوريا أفغانستانَ ثانية، وهو الأمر المعطوف على ما يمكن أن يكنّى “ربيعاً جهاديّاً” يستلهم الشغب الطالبانيّ والمواضبة المستمرّة على القتال التي امتدت طوال عقدين متعبين.

من بين ما أثير في مقابلة الجولاني كان السؤال عن مصير المقاتلين الأجانب، وهو أمر جدّ محدّد لماهية وبنية تنظيمه المنسوج من فكر “القاعدة” والمشتق من تنظيمه العالميّ رغم إعلان الجولاني فك ارتباطه بالقاعدة عام 2016، إذ أن أولى التبريكات لطالبان جاءت من قياديين غير سوريين، كأبي ماريا القحطاني (عراقي) والإدريسي (تونسي) وسواهما، ذلك أن مسألة التحوّل من  فرع سوري لتنظيم القاعدة، إلى  ما يقابل حركة طالبان في إِهابٍ سوريّ، يستلزم فض العلاقة بالمجاهدين الأجانب وهو أحد الأسئلة التي واجهت طالبان خلال مفاوضاتها مع الأميركان، لتنصاع الحركة لاحقاً لمسألة فض الشراكة مع المقاتلين الأجانب، بل وتعهدت بمنع تواجد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الأراضي الأفغانية ومحاربته، غير أنّ جواب الجولاني حول مستقبل المقاتلين الأجانب جاء قطعياً لجهة إعلانه “عدم التخلّي عنهم”، وأنهم أصبحوا “جزءاً أساسياً من المجتمع”، بل إنّ “الناس سعداء بهم”!.

سبق أن واجهت حكومة المجاهدين في أفغانستان، بُعيد انهيار الحكومة الأفغانية عام 1992، معضلة “المجاهدين الأجانب” والذين أثاروا ذعر الدول المجاورة وحتى تلك التي وفدوا منها، ما اضطر الولايات المتحدة إلى المطالبة بالإبقاء عليهم في أفغانستان عوضاً عن تصديرهم، وهذه المعضلة إذ تواجه الجولاني فإنّه يرى في مسألة توطينهم واعتبارهم جزءاً من المجتمع السوري مخرجاً مريحاً للغرب وتبديداً لمخاوف الدول التي تخشى من تسرّب هؤلاء المقاتلين إلى دولها، لكن سلوك الجولاني في هذا الصدد يعكس نظرة مخيفة حيث سوريا هي “وقف” إسلاميّ لكل مقاتل أجنبي شارك في الأعمال القتالية.

والتحوّل من تنظيم منضوٍ في تنظيم عالمي مدرج على قوائم الإرهاب، إلى آخر مدرج على قوائم “الجيش الوطني السوري” استوجب تغيير اسم هيئة تحرير الشام وتوسعته، لكن لا التسمية ولا التوسعة كانتا كافيتين لمسح سجل التنظيم، رغم المحاولات التركية المريرة الرامية إلى تعويم الهيئة، والتي يبدو أنّ آخرها هي الرغبة في دمج تحرير الشام في الجيش الوطني والقتال سويّاً في إدلب وفق تصريح لقائد فرقة “السلطان سليمان شاه”، أبو عمشة، ولأن قائد هذا الفصيل الذيليّ والموالي لتركيا لا يجرؤ على الإدلاء بتصريح كهذا لولا أنه طُلب إليه ذلك، ولولا أن كلاماً تركياً واضحاً وضع في فمه، مع ما تحمله مجازفة الدعوة إلى الدمج من تعارض صريح مع مقرّرات أستانا التي اعتبرت هيئة تحرير الشام تنظيماً إرهابياً.

يفرض استلهام تجربة الجهاد الأفغانيّ، والتجربة الطالبانية اللاحقة، أن يكون في جوار المجاهدين دولة راعية، دولة أشبه بباكستان، ولعل الدور التركي الذي يراهن عليه الجولاني في رعاية هيئته مع إشادته بالدور التركي الذي أعاد التوازن إلى إدلب، هذا التوق للمساعدة التركية يزيد من يقينه في إمكانية تكرار تجربة دعم باكستان للمجاهدين الأفغان خاصة وأنّه حصر العمل العسكري في مواجهة روسيا وإيران مستبعداً الولايات المتحدة من دائرة المواجهة، وبالطبع يمرّ طريق الإشادة بتركيا وأدوارها بفكرة اختلاق عدو مشترك، وهو هنا وحدات حماية الشعب، وهو الاسم الذي انتقاه الصحفي التركي في سؤاله للجولاني بدل قوات سوريا الديمقراطية، ولأننا في سياق موقف مبنيّ على اليقينيّات فإن الجولاني متيقّن من خروج الوحدات مع خروج القوّات الأميركية طبقاً لما حصل في أفغانستان، وفي هذا وعيد مضمر بمحاربة قوات سوريا الديمقراطية حال خروج الأميركي.

الاستعداد لمواجهة الروس والنظام بالطريقة التي ألمح إليها الجولاني بالاتكاء إلى نموذج طالبان في المواجهة طويلة المدى، قد تبدّده الفروقات البيّنة، حيث ليس في وسع تركيا دعم الجولاني بالطريقة التي أمّنتها باكستان لمقاتلي طالبان وقد جمعتهما مشتركات قبليّة وثقافية وسياسية، فوق أن المصلحة الأمريكية لم تعد تتطلّب هزيمة المشروع الروسي في سوريا وهو ما لن يعني في أي باب دعماً أميركياً لتحرير الشام حتى وإن كان على سبيل إخراجها من لوائح الإرهاب، إلى جانب أن النموذج الأقرب في حال بدأت المواجهة المفتوحة سيكون النموذج الروسي القاسي في الشيشان على ما احتواه من نتائج كارثية ومن قسوة ومن رغبة عارمة في طي ملف التمرّد الشيشاني المصحوب بدعم الجهاديين.

الجولاني وصحبه إذ يستلهمون تجربة طالبان إنّما يسعون إلى تثبيط كل أمل في خلاص الشعب السوري من دوّامة الحرب الأهلية والفقر واللجوء والنزوح والخراب العميم، والأشد وطأة هو أنهم باستلهامهم هذا إنما يستحضرون أسوأ تجارب الحكم في العالم وأشدّها رجعية وتخلّفاً وأكثرها احتقاراً لحقوق الإنسان، لكنه إلى ذلك يقين التيّارات العنفيّة في أن النصر قادم وأن التمكين آتٍ حتى وإن قاد إلى نتائج كارثيّة مدمّرة.