لا توجد مدينة فرنسية إلا وفيها شارع يحمل اسمه وحتى أكبر مطار في باريس يحمل اسمه وهذا يؤكد أنه لا يمكن لفرنسا أن تنسى فضله وشجاعته، الجنرال شارل ديغول هو الرجل التاريخي الذي وقف في وجه النازية عندما تراجع غيره وهو من قاد فرنسا الحرة وانتصر على الطرف الفرنسي الآخر الذي قبل بمعسكر هتلر وبقيمه النازية أي حكومة فيشي. الجنرال شارل ديغول حتمًا كان رجلاً سابقاً لعصره بمفاهيمه, بفكره الحداثي وبقيمه الإنسانية ولذا هو فهم قبل غيره قضايا أساسية عادلة كإنهاء حقبة الاستعمار ونصر الشعوب المظلومة.
هو من أسس لما سماه سياسة فرنسا العربية ويقصد بهذا استراتيجية تقارب خاصة لفرنسا من العالم العربي. تجسدت هذه السياسة بصداقات بناها الجنرال مع شعوب وزعماء العالم العربي. وبرزت معالمها حين قرر ايقاف حرب الجزائر والاعتراف باستقلالها, لقد واجه الجنرال عداءً فرنسياً داخلياً كبيراً بسبب موقفه الشجاع هذا، لقد كان حريصاً على فهم الثقافات الأخرى وبواقعية كان يعترف بكل تواضع وموضوعية بحدود فهمه لهذا العالم الغريب عنه وكان الجنرال يعي بعمق كم هو معقد الشرق الأوسط الذي قال عنه أطير لشرق معقد بأفكار بسيطة.
لربما المرحلة التي عاشها الجنرال كانت مرحلة الرجال التاريخيين العظماء الوطنيين في دول عديدة لا يكررون, حتماً كانت تلك الحقبة هي مرحلة بناء دول ونهوض أخرى والعبور بها من عصر قديم لعصر جديد؛ وهكذا عبر الجنرال ديغول بفرنسا للعصر الحديث محدثًا كل ما فيها، من تأسيس قانون الضمان الصحي، للعطل السنوية المدفوعة الأجر, للاقتصاد والصناعة وغيرها، ورغم نهاية عصر الهيمنة البريطانية الفرنسية على العالم مع نهاية عصور الاستعمار وصعود نجم الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إلا أن الجنرال ديغول جهد للمحافظة على مكانة مهمة جداً لبلده فرنسا بين الدول وعرف كيف يختار حلفائه.
وما زالت تعيش الجمهورية الفرنسية الخامسة التي أسسها على إرثه، ويتخبط الرؤساء الفرنسيون من بعده بمواقفهم ويفتقدون للكثير من حكمته وبعد نظره بمعالجة القضايا العالمية التي من شأنها ترميم السلام وجسور الثقة بين الشعوب والدول.
أما عن هذا العالم العربي الذي أحبه الجنرال ديغول فهذا العالم العربي لم يعد ذاته، حيث أن اليوم غير البارح ولم تعد الشعوب العربية معنية بذات القضايا القديمة، وظهرت صراعات جديدة وحتى القضية الفلسطينية التي اتخذ فيها الجنرال موقفاً جريئاً وحكيماً مقترحاً حل الدولتين, لم تعد اليوم قابلة للحل بذات الرؤية، في الواقع لم تعد الأمور واضحة في هذا العالم المتغير خصوصاً بعد نهاية الماركسية وصعود تيارات فكرية إسلامية جديدة للمشهد وتوسع دول دينية كإيران في الشرق الأوسط.
ماذا كان بإمكان الجنرال ديغول أن يفعل لهذا العالم اليوم لو كان بيننا؟. هذا ما يسأل بعض الفرنسيين الذين يحملون إرثه وينتمون لحزبه. وكيف يمكنهم إعادة نهج سياسة الجنرال ديغول مع العالم العربي واستعادة الدور المميز لفرنسا في المشرق والمغرب كما كان؟.
في الواقع كان الجنرال يلمس ضرورة التشارك مع العالم العربي رغم كونه بالنهاية ابن عصره الذي كان يتسم بكثير من العنصرية. فهو كان ككل أبناء جيله وطبقته مسيحي متدين محافظ وهذا رغم كونه كان يحكم بلداً علمانياً, ولم يكن عنصرياً لكنه حسب ما قال لصديقه الكاتب والمفكر اندريه مالرو كان لديه رؤية استشرافية عن الإسلاميين وقد فسر الكثير لصديقه عن مخاوفه من المستقبل, فكتب حينها مالرو متوقعا ثورة إسلامية ومشبهاً الإسلام بالماركسية، قائلاً: هناك تيار فكري إسلامي قادم في المستقبل ونحن في أوروبا سنجد أنفسنا في مأزق، لأننا غير مهيئين للتعامل مع هذا المد الفكري القادم.
وبعد انتخاب الجنرال ديغول بأشهر في مارس عامر1959 صرح الجنرال التالي في قصر الاليزيه لصديق: “جميل أن يكون هناك فرنسيين صفر وفرنسيين سود فرنسيين سمر، هذا يبين أن فرنسا منفتحة على العالم ولها شأن عالمي ولكن شرط أن يبقوا أقليات فنحن قبل كل شيء شعب أوروبي من عرق أبيض وتنحدر ثقافتنا من اليونانية واللاتينية وديننا مسيحي.
واستشهدت بهذا الكلام النائبة البرلمانية نادين مورانو منذ عامين خلال الحملة الانتخابية وتفاجأت بكم الهجوم الذي تعرضت له من الشعب الفرنسي ومن الديغوليون أنفسهم.
هذا الكلام لربما قاله الجنرال رغم أن الكثيرين ينكرون المنقول لكنه بالمطلق لا يمثل قط الفكر الديغولي اليوم.
هذه الجمهورية الفرنسية رغم التخبط الذي تعيشه اليوم هي إرث ديغول وهذا التقبل للآخر والاعتراف بالتنوع العرقي والإثني هو أيضا من إرث ديغول ولربما هو محق بتوقعه للثورات السياسية الإسلامية فهذا ما حصل في إيران مثلاً وهذا ما يجرب الإسلام السياسي القيام به في كل مكان.
لكن القيم الإنسانية تنتصر دائماً فهي انتصرت على الماركسية عندما ألغت الماركسية حرية الفرد وستنتصر القيم الإنسانية على كل من سيلغي الفرد وحريته, حتى وأن تخفى هذا بقدسية الدين.
استعادة نهج السياسة العربية التي أسسها ديغول لفرنسا هي ما لربما تحتاجه فرنسا وما يفتقده العالم العربي. لربما حضور أكبر سياسياً لفرنسا في الشرق الأوسط من نتائجه أحداث توازن واستقرار أكبر.
فرنسا الديغولية بسياستها العربية لم تكن تابعة فقط كانت تجرؤ على التفرد والمبادرات.