طبيعة النظام السوري

لقد نجح الرئيس الراحل حافظ الأسد، ومن بعده ابنه، في بناء نظام سياسي استبدادي من طراز خاص، وإن خصوصياته سوف تلقي بظلالها على مسار تغييره. هذه الفرضية لم تأخذها بالحسبان قوى التغيير المستجدة (الحراك الشعبي بعد اندلاع الاحتجاجات) وكان ذلك خطأ جسيماً دفعت ثمنه باهظاً، ودفع معها الشعب ثمناً باهظاً أكثر. اللافت أن هذه الخصوصيات التي شكلت في حينه فهماً مشتركاً لدى جميع قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية في سوريا، أو لدى النخب الثقافية، وكان الأساس الذي تأسس عليه مطلبها في التغيير السلمي الآمن، والمتدرج، غير أن أغلبها تخلى عنه للأسف خلال الأزمة الراهنة. من هذه الخصوصيات نذكر ما يأتي:

أ- استطاع مؤسس النظام خلال نحو ثلاثة عقود بناء نظام أمني جهازي قل نظيره، في تعميم شامل لمفهوم الأمن، إذ شمل جميع مناحي الحياة في سوريا.

ب- القوة الحقيقية في هذه النظام هي للأجهزة الأمنية، فهي المرجع والمقرر في كل ما يخص الدولة، والسلطة، والمجتمع.

ت- وفي سياق الرؤية الأمنية الشاملة تم تسييس الجيش، تحت غطاء من العقائدية البعثية، التي أخفت تحتها استخداماً واسعاً وفجاً لكثير من البنى الأهلية في بنائه. وأكثر من ذلك فقد أعدته أيضاً للقيام بمهام أمنية، وشكلت قوات النخبة فيه (الحرس الجمهوري، والفرقة الرابعة) كقوة طليعية للدفاع عن النظام.

ث- ومن أجل إخفاء وتمويه الحقيقة الأمنية الجهازية للنظام، تم استخدام حزب البعث، والأحزاب المتحالفة معه، في إطار ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية، بعد قتل روح الحزبية فيها، وتحويلها إلى مجرد أجهزة للسلطة، لتؤدي وظيفة الغطاء السياسي الديكوري لها.

ج- وفي السياق ذاته، نجح مؤسس النظام بتوظيف حزب البعث، من خلال توسيع إطاره، وإرغام الفئات الشابة على الانتساب إليه، أو من خلال المنظمات التابعة له، لشل إرادة قطاعات مهمة من الشعب السوري، ومنعها من رؤية الأسباب الحقيقية لمعاناتها، ولما تعاني منه سوريا بصورة عامة.

ومن أجل تأمين مزيد من السيطرة، والتحكم بالمسجلين في حزب البعث، أصدر النظام قانون أمن الحزب، لترهيب البعثيين أنفسهم، ولقتل روح التساؤل لديهم. لقد حول النظام البعثيين، وقاعدتهم الاجتماعية إلى مجرد آذان تسمع، وأياد تصفق، وحناجر تصرخ بالروح بالدم.

  • ومن أجل الهدف الأمني ذاته، تم تحويل جميع التنظيمات النقابية، وهيئات المجتمع المدني والأهلي، بعد القضاء على الروح النقابية فيها، إلى مجرد أجهزة للسلطة، تقوم بمهام أمنية بالمعنى الواسع لمصطلح أمن.

لقد كان واضحاً منذ البداية لمؤسس النظام وشركائه أن الغاية من بناء النظام الأمني الجهازي هو المحافظة على السلطة، والبقاء فيها، ومن أجل ذلك تم تكريس كل الوسائل المتاحة لبناء نظام سياسي يسهر عليها، ويعيد إنتاجها. وكان واضحا لهؤلاء، ومنذ البداية أيضاً، أنه لكي ينجح النظام السياسي المنشود في مهمته المركزية، كان عليه أن يعتمد السياسات الآتية:

أ-سياسة الإدارة بالفساد.

ب-سياسة قتل الروح السياسية في المجتمع.

كان من نتيجة النهج المعتمد على سياسة الإدارة بالفساد، إنعاش الغرائز اللصوصية في أجهزة الدولة، والمجتمع، والاقتصاد، بحيث صارت السرقة والرشوة من الوسائل الأساسية في الإدارة، والضبط المجتمعي. لقد أدت هذه السياسة إلى تشكيل تحالف ذي  طابع طغموي أمني بين شرائح البرجوازية البيروقراطية، والكمبرادورية، والطفيلية، والأجهزة الأمنية، لتكوين سلطة سياسية شديدة المحافظة.

ومن جهة ثانية، أدت هذه السياسة إلى انهيار شبه كامل لمنظومة القيم الحميدة في المجتمع، لتحل محلها منظومة قيم جديدة فاسدة، تعلي من شأن الفاسد، والسارق، والمهرب (برافو قد حالو..).

أما فيما يخص سياسة قتل الروح السياسية في المجتمع فقد تم العمل بموجبها على جبهتين: على جبهة النظام، جرى العمل على قتل الروح الحزبية في أحزاب السلطة، وخصوصاً في حزب البعث، وإغراق قياداتها في الفساد، والإثراء غير المشروع، وتحويلها إلى مجرد ديكورات سياسية.

على جبهة القوى المعارضة، عمل النظام، وبكثافة لمنع نمو تيارات سياسية معارضة فاعلة وجماهيرية، من خلال تكثيف حملات الاعتقال لأعضائها، إلى درجة أنها أخذت طابعاً استئصالياً في بعض المراحل، وتم تعميم الخوف في المجتمع، حتى صار عنواناً للسلبية والابتعاد عن الخوض في القضايا السياسية الوطنية، وخصوصاً ما يتعلق منها بالشأن الداخلي. كان من نتائج هذه السياسة تكوين مجتمع منزوع السياسة، منزوع الحزبية، منزوع الثقافة السياسية، لتملؤه ديماغوجيا تعظيم الزعيم.

كل ذلك عمل على تكوين شخصية المواطن السوري، بصورة تجمع التناقضات في داخلها، وتتعايش معها، وكأنها من الأمور الطبيعية. اليوم مثلاً الكل يشكو غلاء المعيشة حتى صار أكثر من 80 % من السوريين تحت خط الفقر لكن لا أحد يجرؤ على القول أن السبب يكمن في النظام وليس في هذا الوزير أو ذاك. ومع أن التراكم في معاناة السوريين قبل عام 2011 دفعتهم، بتحفيز شديد من انتفاضة التونسيين والمصريين قبلهم، إلى التمرد على السلطة في عام 2011، لكنهم اليوم لا يجرؤون على ذلك، ليس فقط بسبب خوفهم من النظام، بل وأيضاً بتأثير مما حصل ويحصل في الدول العربية التي شهدت ما يسمى بالربيع العربي.