أشار المفكّر الأميركي فرانسيس فوكوياما، في مقالٍ خصّه بالانسحاب من أفغانستان ونشرته الإيكونوميست، إلى أن نهاية الحقبة الأميركية جاءت قبل (الانسحاب) بكثير، وأن مصادر الانحدار له “مصادر داخليّة” وأن الولايات المتحدة ستبقى قوة عظمى لسنوات عديدة رغم ذلك، ولكن علوّ كعب أميركا متوقّف على قدرتها على “إصلاح مشاكلها الداخلية”، فالتحدي الأكبر لمكانة أميركا العالمية هو “تحدٍ محلّي”، في حين يقدّم فوكوياما تكثيفاً مفاده أنه من غير المرّجح أن تستعيد أميركا هيمنتها السابقة، “ولا ينبغي لها أن تفكّر في ذلك”.
من بين المشكلات المزمنة، تعاني الولايات المتحدة من حدّة الاستقطاب والانقسام الداخلي، والتي تدرج على أنها أولى المشكلات أمام سياسات أميركا الخارجية، وبذا تأتي مسألة الانسحاب كواحدة من التفاصيل المتعلّقة بالانقسام المحلّي بين داعين إلى التمركّز في الدول المضطربة وإرجاء الانسحابات وعدم إفساح المجال لمنافسي الولايات المتحدة وطمأنة حلفائها في المناطق القريبة لتواجدها، وبين الداعين إلى الانسحاب والتفرّغ لتطويق صعود الصين وروسيا وما يمليه ذلك من انسحاب من مناطق “ثانوية” كأفغانستان والعراق وسوريا.
وإذا كان الانسحاب المضطرب من أفغانستان، وربّما الكارثيّ، قد دفع أطرافاً معادية للولايات المتحدة وأخرى متحالفة معها لتتبّع مسيرة الانسحابات التالية فإن شمال شرقي سوريا تقف في طابور الانسحابات المقبلة، وهو ما يبقي باب التكّهنات مفتوحاً على انسحاب مبكّر وآخر مدروس بعناية يبتغي الاستفادة من الدرس الأفغاني خاصّة وأن دراسة الانسحاب الفاشل صاحبته العشرات من التحليلات والأبحاث والمقالات النقدية التي ركّزت على موضوعي الفشل في بناء دولة أفغانية قادرة على حماية نفسها، وشكل الانسحاب الذي بدا اعتباطياً تالياً، فيما يأتي هذا النقد الحاد بوصفه سمة من سمات الأنظمة الديمقراطية حيث المراجعات المكثّفة تساهم في تلافي الأخطاء السابقة، وتحدّد المسؤولية المباشرة لصنّاع القرار.
كان الرئيس جو بايدن قد انتقد بوضوح الانسحاب الجزئي وغير المدروس لسلفه، دونالد ترامب، من شمال شرقي سوريا، وأنّه تسبب في إرباك واسع للأميركان، وهو ما كان سبباً للانقسام داخل المؤسسات الأميركية، بيد أنّ ما فعله بايدن في أفغانستان من انسحاب غير مسؤول ينطوي على تقاطع مريع مع ما أقدم عليه سلفه من استعجال واعتباط فيما خصّ تأمين حلفائه على الأرض، وهو يعني أن مسألة الانسحابات وشكلها ومزاجيتها بحاجة إلى استراتيجيات أوضح، وهو يعني أيضاً أن الانسحاب من العراق أو سوريا لن يتمّ على شاكلة ما حدث في أفغانستان، وهو ما كان قد أعلنه بايدن لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي حول إنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية في العراق سيتمّ بنهاية العام الجاري، في وقت رأت أوساط عراقية أن الانسحاب لن يحدث حرفياً بقدر ما ستتم إعادة تسمية وتعريف طبيعة التواجد في العراق، وهو ما تفرضه حالة الانقسام الداخلي الحاد بين الشيعة والسنة والكرد، حيث أن الفراغ ستملئه على نحو متوقّع إيران بمعيّة الجماعات الشيعية المقربة منها. هل يذكّر تحقّق مثل هذا السيناريو في العراق بنموذج السيطرة المريحة لطالبان على السلطة وتدمير كل ما نسجته واشنطن من حكومة وجيش خلال عشرين عاماً؟.
في الضفّة السوريّة أيضاً، البديل الفعلي للانسحاب هو عودة الإرهاب إلى شمال شرقي سوريا، وهو معطوف على حرب تركية متوقّعة حال خروج الأميركي، ما يعني أن انتعاش “داعش “وعودتها إلى مزاولة أنشطته المتشددة وتجميع قواه يمرّ بالانسحاب الأميركي أوّلاً وبدور تركيا المدمّر للاستقرار تالياً، خاصّة وأن “داعش” في جوهره هو من التنظيمات الثأرية ويدخل إيذاء واشنطن في سلّم أولوياته، ولعل ما قام به “داعش” – تنظيم خراسان بمحيط مطار كابل في اللحظات القليلة قبل الانسحاب يدلّل على المنهج الثأري والدعائي للتنظيم الذي يحاول ربط الانسحاب بقوّته ودوره الريادي في توجيه الضربات للأميركان.
وعلى هدي الانسحاب من أفغانستان كثّفت تركيا أعمالها العدائية في تل تمر وزركان، هذا في مقامٍ ما تذكير للأميركان بأن سيرة الانسحابات ينبغي أن تمتد إلى سوريا، وإذا كان تنفيذ عملية اجتياح لمناطق شمال شرقي سوريا متعذّراً في ظل التواجد الروسي والأميركي دون وجود اتفاقات وتسويات كبيرة، فإن الأقرب للتصوّر هو إصرار تركيا على تحويل المنطقة إلى ساحة اشتباكات متواصلة تستنفذ المجتمع المحلّي والقوّات المدافعة وتدفع الأميركان للتفكير في الانسحاب من منطقة لن يكتب لها الاستقرار المستدام، لكن ما يقابل هذه التصوّرات التركية شديدة العداء لحالتي الاستقرار الأمني والسلام الاجتماعي فإنه ثمة مواعيد مجهولة للانسحاب وهو ما يُدخل أنقرة في هستيريا متصلة بمستقبل المنطقة، واحتمالات أن تتلافى واشنطن كارثة طريقة الانسحاب من أفغانستان حيث أن الفراغ لا يتم ملؤه وفقاً للتصوّرات المدروسة.
يبقى التوقّع الثابت، أن الولايات المتحدة لن تبقى في سوريا إلى ما لا نهاية ومثل هذا القول لا يحتاج إلى كبير عناء، ولكن استمرار البقاء في الوقت عينه بات قريناً بوجود ملفّات مفتوحة، أحدها تحرّكات “داعش” الذي أثبت نموّه في أفغانستان أنه من قماشة التنظيمات التي “تمرض ولا تموت” وأنّ التنظيم بات شبكة دولية قابلة للاتساع باضطراد، وهو ما يحفّز واشنطن على المواجهة بدل الانكفاء والانسحاب، وهو يعني أيضاً أن الدرس الأفغاني له وجهين، الأوّل، هو أن أميركا محكومة بالانسحابات، فيما الوجه الآخر هو احتمالات إعادة النظر في فكرة الانسحابات التامّة في المناطق التي لا تتكبّد فيها أميركا خسائر مادّية عالية أو أخرى في صفوف جنودها كما في حالة شمال شرقي سوريا، وهذا الوجه الآخر هو بالضبط ما يؤرّق كل الأطراف التي تتحيّن خروج الأميركي.