القامشلي ـ نورث برس
قال أحد المؤرخين في وصف حلب هي “المدينة العظيمة الواسعة كثيرة الخيرات طيبة الهواء وصحيحة الأديم والماء”.
وتقع حلب على نقطة تجارية استراتيجية في بين البحر المتوسط وبلاد ما بين النهرين، وفي نهاية طريق الحرير. وربما لهذا السبب ومنذ ظهورها في التاريخ تنازعتها وتقاتل عليها الأمم، وليت التنازع والتقاتل كان لذاتها لأنها “ملكة الشرق”، كما وصفها البعض.

وكتاب “بغية الطلب في تاريخ حلب” لمؤلفه “ابن العديم” هو من أهم الكتب التاريخية الخاصة ببلاد الشام، ويقع في 40 مجلداً. بقي منه 10 مجلدات فقط. يتناول تاريخ روما والصليبيين والعرب والأتراك والكرد، والمسيحيين والمسلمين في عصورهم المليئة بالأحداث والتطورات، وازدادت أهمية هذا الكتاب بالمنهج الذي سار عليه مؤلِّفه بذكر موارده صراحة واستقاء مادته مباشرة.
تظهر في المجلدات الموجودة خطة المؤلف، فقد بدأ أولاً بحلب، ثم أنطاكية وثغور الشام والجبال والآثار، والبحار والأنهار، والبحيرات، وذكر الرصافة، وخناصرة، والمعرة، ومعرة مصرين، وطرسوس، والباب، وحماة، والمصيصة، وأفاض في ذكر الحصون وغيرها.
كما صَوَّر ابن العديم في كتابه أهميةَ حلب منذ عصورها الإسلامية، ودوَّنَ فيه هجماتِ البيزنطيين حين يغيرون على الشام، فيرتطمون على صخور حلب حيث كانت الحصن الحصين للشام.

ويُعَدّ الكتابُ أوسعَ مصدر في تاريخ الشام، ولحوادث الدول التي تعاقبت فيه. فقد أتت الأحداث التاريخية التي ألَمَّت بالشام: (الصليبيين، والمغول).
ولابن العديم فضْلٌ في نقل العباراتِ المتداولة، واللهجاتِ السائدة، والأقوال والحوار كما جاءت في القديم، حيث اعتبره البعض مَرجعاً لمن يريد أن يدرس اللغات واللهجات على مَرِّ القرون واختلاف المناطق والأديان والمذاهب.
أما منهج الكتاب فلم يثبت ابن العديم خبراً إلا ذكر مصدره، ولم يورد شعراً إلا وصف الديوان الذي وصل إليه، أو الكتاب الذي قرأه فيه، ولم يسرد حديثاً أو حكاية إلا قال: سمعت، قرأت، أخبرنا، حدثنا، حضرت، شاهدت، أنبأنا، قال لي فلان، ووقع إليَّ من كتاب فلان.
ومن هنا تأتي أهميةُ هذا الكتاب وقيمته، بحسب أحد المؤرخين، “فهو سجلٌ مفصَّل لتاريخ الشام على اختلاف عصورها، وتاريخ عظيم لمدينة حلب ورجالها ومن مَرَّ بها، ومن دفن فيها، ومن تحدث عنها”.
أما سبب تأليفه، فقد كانت حلب مَبعثَ حركة ونشاط، وحرب وقتال، ونضال منذ فجرِ الإسلام حتى عصره، وكان الشعراء والشيوخ والعلماء يَفِدُون إليها، ويقصدها العلماء والشعراء من مصر والعراق.
وفي تسمية الكتاب، يقول ابنُ العديم نفسه في المقدمة: “سَمَّيته بزبدة الحلب، لأنه منتزع من تاريخي الكبير للشهباء، المرتب على الحروف والأسماء”.
وجاء في “لسان العرب” أنَّ الزُّبْدَ: زُبْدُ السَّمْنِ قبل أن يُسْلأ، والقطعة منه زُبْدَة، وهو ما خلص من اللبن إذا مُخِضَ، وزَبَدُ اللَّبن: رَغْوَتُه، ابن سيده: الزُّبْد، بالضم: خلاصة اللبن، واحدته زُبْدَة. كذلك أنَّ الحَلَبَ استخراجُ ما في الضَّرْعِ من اللَّبَن، يكون في الشَّاءِ والإبل والبقر، والحَلَبُ: مصدر حَلَبَها يَحْلُبُها ويَحْلِبُها حَلْبًا وحَلَبًا وحِلابًا
وابن العديم، هو عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جراد، ولد في حلب عام 1192. يعد من أشهر مؤرخي تلك الفترة، جمع شتى أنواع المعرفة، وكان مؤرخاً فذاً فقيهاً ومحدثاً وشاعراً وسفيراً.
وعندما قصد التتار الشام وهرب الملك الناصر صاحب حلب إلى برزة، فَرَّ معه كثير من الناس ومنهم ابن العديم، ثم سافر ابنُ العديم إلى غزة ومنها إلى مصر، وقد ذكر بعضُ المؤرخين أن هولاكو عرض عليه منصب القاضي في حلب، ولكنه رفض أن يجعل نفسه في خدمة الأعداء.
ولما تواردت الأخبارُ بأنَّ عسكر سيف الدين قطز صاحب مصر شَتَّت عسكر هولاكو في موقعة عين جالوت، وأن التتار انهزموا هزيمة ساحقة، وأنهم كسروا على حمص، وجلوا عن حلب، عاد مع أهله إلى بلده مرة أخرى.
وعندما رجع ابنُ العديم إلى حلب، شَهِدَ فيها مظاهِرَ الخراب والدمار، ورأى أن وحشية التتار لم تُبْقِ فيها شيئاً، فتألم لخرابها بعد العمارة التي كانت عليها، وكآبتها بعد السُّرور، فرثاها بقصيدة طويلة جاء فيها:
وَعَنْ حَلَبٍ مَا شِئْتَ قُلْ مِنْ عَجَائِبٍ أَحَلَّ بِهَا يَا صَاحِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
أَحَاطُوا كَأَسْرَابِ الْقَطَا بِرُبُوعِهَا عَلَى سُبَّقٍ جُرْدٍ مِنَ الْخَيْلِ طُهَّمُ
أَتَوْهَا كَأَمْوَاجِ الْبِحَارِ زَوَاخِرٌ بِيضٌ وَسُمْرٌ وَالْقَتَامُ مُخَيَّمُ
فَيَا حَلَبًا أَنَّى رُبُوعُكِ أَقْفَرَتْ وَأَعْيَتْ جَوَابًا فَهْيَ لاَ تَتَكَلَّمُ
ومات ابن العديم في القاهرة، ودفن فيها سنة 1262.