الوضع الدولي والنظام الاستبدادي السوري

منذر خدام

بداية لا بد من الإشارة إلى أن العالم قد تغير، وتغيرت بالتالي أنماط التفكير، التي كانت سائدة خلال مرحلة الحرب الباردة، والتي كانت تولد طلباً كبيراً على الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية. لقد صار العالم، في الفترة التالية للحرب الباردة، أكثر تقبلاً لفكرة الحرية والديمقراطية، في ظروف صارت الرأسمالية أقرب للتماثل الداخلي، تعيش تناقضات وصراعات تطورية، وليس بنيوية. بكلام آخر لقد استعادت الرأسمالية العالمية تناقضاتها، وصراعاتها التقليدية على الموارد، وعلى الأسواق، بما تفرضه هذه التناقضات، وهذه الصراعات من تحالفات وتكتلات واستقطابات، ومناخات ملائمة. وأن الحرية، أو الديمقراطية، أو حقوق الإنسان، وغيرها من المفاهيم، والقضايا التي تعنيها الرأسمالية، هي تلك التي  ترسم حدود المناخ الملائم لاشتغال رأس المال.

في هذا المناخ الدولي الذي أخذ يولد طلباً على الديمقراطية ازداد الضغط على الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية في العالم فدفعتها إلى التغير. غير أن استجابة الأنظمة العربية للتغيير كانت أقل مما هو مطلوب لذلك عمدت إدارة بوش الابن لزيادة الضغط عليها من خلال تبني  استراتيجية جديدة خاصة بالمنطقة تحت عنوان “الفوضى الخلاقة”، التي وجدت تطبيقها العملي في عهد إدارة أوباما فيما سمي بالربيع العربي مستفيدة من الظروف الموضوعية الناضجة للتغيير في أكثر من بلد عربي. غير أن الفوضى التي حدثت في المنطقة لم تكن خلّاقة للأسف بل مجرد فوضى، وبالتالي لم تحمل تغيرات حقيقية باتجاه الحرية والديمقراطية.

لم يكن النظام السوري بمنأى عن هذه الظروف العالمية الجديدة وما ولدته من طلب على التغيير. غير أن النظام السوري، الذي راهن كثير من السوريين عليه، في عهده الجديد، صم آذانه عن المطالب الوطنية بضرورة الإصلاح، تحوطا ومنعا للتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري، وتمتينا لوحدته الداخلية في وجه التدخلات المحتملة، والتي كنا، في أكثر من مناسبة، قد نبهنا إلى جديتها وخطورتها، وأنها أخذت تتحول من وضعيتها الاحتمالية إلى وضعية التأكيد. مع ذلك استمر النظام في تمنعه عن إجراء أي إصلاحات جدية في بنيته، وآلية اشتغاله، وفقد أي فرصة للقيام بذلك قبل عام 2011 مما جعل الشعب السوري ينتفض ضده مطالبا بالإصلاح والتغيير. ومما لا شك فيه أن السلطة السورية تتحمل مسؤولية خاصة في هذا المجال. الوعد بالتغيير لم يعد يقنع الشعب السوري، فهو يريد أفعالاً حقيقية، تعيد للمواطن حريته، وكرامته، وحقه في حياة سياسية طبيعية. إنه يتطلع إلى ما يؤسس لدولة الحق والقانون، دولة المؤسسات، لا الأجهزة، دولة ديمقراطية يصنعها بنفسه، تشكل خياره الوطني، وليس خياراً مفروضاً عليه.

من نافل القول، إن سوريا تهددها مخاطر كثيرة، داخلية وخارجية. غير أن هذه المخاطر ما كان لها أن تكون بهذا الوضوح والجدية، والخطورة، لو كان البناء السياسي والاقتصادي لسوريا سليماً معافى. ليس من باب المغالاة أبداً القول بأن الكيان السياسي السوري صار مهدداً في وجوده. وإن البحث العلمي الجاد في الأسباب التي قادت سوريا إلى هذه الوضعية، سوف تقود مباشرة إلى طبيعة النظام السياسي الاجتماعي القائم في سوريا على الاستبداد، والشمولية، في رعاية سلطة أمنية شديدة المحافظة.

تتحدد خيارات المجتمعات الحرة عادة كمحصلة لجميع القوى المجتمعية وتعبيراتها السياسية، والمدنية، والأهلية، وهذا يضمر في ذاته ضرورة التنوع في أشكال الوجود الاجتماعي، وفي تعبيراتها الفوقية، السياسية، والثقافية، والأيديولوجية وغيرها. وهو يفترض أيضاً إمكانية الاختلاف في وجهات النظر، وفي السلوك، تجاه طبيعة القضايا، والمخاطر التي تواجه البلد، وفي كيفية التصدي لها. بكلام آخر، إن خطاب الوحدة الوطنية، الأثير على قلب الحكام السوريين، هو خطاب ينبغي أن يتوجه بالضرورة نحو بنى وقوى مجتمعية مختلفة بحكم مصالحها، ولا بد من خلق الظروف المناسبة لها كي تعبر عن وجودها، وتدافع عن مصالحها، في إطار القانون، ورعاية المؤسسات.

لقد فوّت النظام السوري فرصاً كثيرة قبل عام 2011 لإنقاذ البلد فلم ينفذ شيئاً من الوعود الإصلاحية التي أعلنها رئيسه في حينها. كان من المتوقع بعد أن انتفض قسم مهم من الشعب السوري ضده مطالباً إياه بالإصلاح، أن يستجيب لبعض مطالبه لكنه صم أذنيه وظل يناور ويماطل مراهناً على الزمن، وأنه سرعان ما يستكين السوريون، غير أن نتيجة هذه المراهنة أن تم تدمير البلد والشعب. وها هو اليوم في خطاب القسم لتوليه عهدة رابعة من سبع سنوات يزداد تشدداً ولا يكترث لإعادة توحيد سوريا، والتخفيف مما يعانيه السوريون من الافتقار إلى مقومات العيش الكريم. واليوم كما في السابق لا تزال سوريا معرضة لمخاطر خارجية كثيرة وأن الطريق الوحيد المتاح للحؤول دون ذلك هو طريق الحل السياس عبر مسار جنيف واللجنة الدستورية.