كفتارو.. رائد إخاء الأديان

محمد حبش

حين تقرأ هذه الكلمات فستكون الذكرى السابعة عشرة لرحيل الشيخ أحمد كفتارو المفتي العام للديار السورية الذي رحل في الثاني من أيلول 2004.

تولى الشيخ كفتارو إفتاء دمشق عام 1954 وبعد عشر سنوات تم اختياره مفتياً للجمهورية 1964 وقد أكمل في منصبيه خمسين عاماً بالتمام والكمال حتى رحل إلى لقاء ربه.

وبعيداً عن الدور السياسي الذي ارتبط بمنصبه، فإن الرجل انشغل كثيراً في مسألة إخاء الأديان في سوريا. عرف الناس توجه الشيخ هذا من خلال برنامجه الذي كان يقدمه في التلفزيون السوري عام 1966.

وكان يوجه نداءه باستمرار بصيغة (إخواننا المسيحيين) وقد كانت هذه الكلمة كافية لإثارة الشارع المتعصب الذي كان يرى في هذه الكلمة استخذاء في الدين وموافقة للنصارى على شركهم وطعناً في عقائد التوحيد ومخالفة لفتاوى الجمهور، وخلال أسابيع قليلة نشر المشايخ بياناً بتوقيع عشرات الخطباء والأئمة يطالب الحكومة بوقف هذا البرنامج الذي يقوم بتمييع الدين والمساواة بين الإيمان والشرك وبين التوحيد والتثليث.

وعلى الرغم من أن الرجل كان في منصب المفتي العام ولكن الحكومة اختارت مجاملة التعصب وأوقفت البرنامج التلفزيوني، وهو للأسف موقف لا يزال يتكرر من قبل السلطات التي تجبن عن اتخاذ مواقف مسؤولة وشجاعة وتستسلم للمتعصبين.

على أن الشيخ كفتارو لم يتوقف عند ذلك وأعلن أن ما قام به هو واجب ديني وإنساني وأعلن أنه سيستمر في رسالته في إخاء الأديان وكرامة الإنسان.

على المستوى المسيحي فقد بادر الشيخ كفتارو إلى التواصل مع كافة أبناء الديانة المسيحية في الشام ولبنان وبادرهم بالزيارات واستقبلهم في جامع أبو النور ولا أذكر أن بطريركاً تم تعيينه في البطركية إلا وزاره الشيخ في بطركيته ثم استقبله في مسجده، وكان من المألوف لنا نحن طلاب الشيخ أن يكون عيد الميلاد مناسبة للقاء الكهنة والبطاركة والمطارنة حيث يتحدثون عن الإخاء الإسلامي المسيحي، ويتلو الشيخ نصوصاً من الكتاب المقدس، ويتلو البطرك نصوصاً من القرآن الكريم.

ثم انطلق رحمه الله في رسالته إلى العالم والتقى البابا في روما ودعاه إلى سوريا وبالفعل فقد زار البابا سوريا عام 2001 والتقى الشيخ كفتارو في الجامع الأموي وتبادل معه كلمات طيبة في الإخاء والمحبة، وفيها تأكيد أن أكرمكم عند الله أتقاكم وأن الله خلق الأديان لتتعارف وتتآلف وليس لتتحارب وتتصارع، وخرج الإمامان الكبيران بوثيقة مشتركة تؤكد الاحترام المتبادل والإعذار فيما اختلف فيه أبناء الرسالتين.

وفي أفق أشد اتساعاَ فقد توجه الشيخ كفتارو إلى آفاق أخرى واتصل بالديانات المختلفة، وشارك في أهم مؤتمرات الأديان في العالم.

ولكن أكبر انفتاح سجل للشيخ رحمه الله هو تواصله بمنظمة الاتحاد العالمي للأديان IIRFWP وهي منظمة أميركية كبرى أسسها رجل الدين الكوري صن ميونع مون وهو من أبرز دعاة إخاء الأديان، وتتخصص هذه المنظمة في حوارات الأديان، القائمة على الوفاق والتلاقي، وقد سجل الشيخ كفتارو إعجاباً بهذه المنظمة وفي خطوة لاحقة أوفد الشيح كفتارو أربعين من تلامذته برئاسة الشيخ بشير الباني رحمه الله 1990 إلى مانهاتن.

على أن الأجمل والأكثر ألقاً هو ما كان يجري في مكان آخر حيث قام الشيخ كفتارو بالمشاركة في حوارات الأديان وكان الشيخ يراها واحدة من منابر الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد طاف بين عواصم العالم يلتقي فيها قادة الأديان وقد عقدت هذه اللقاءات الكبرى بشكل خاص في روسيا التي كانت علاقاتها جيدة مع النظام السوري وفيها التقى الشيخ بالبطريرك بيمن وعقد اللقاءات المختلفة في موسكو وبراغ وباكو وطشقند ويريفان، وكانت هذه اللقاءات عادة تفتتح بصلاة مشتركة، ولمن يريد أن يسأل فالصلاة المشتركة هي دعاء يقوم فيه كل أتباع دين بالترتيل من كتابهم المقدس في جو روحاني كريم، وليس فيها بالطبع ركوع ولا سجود.

وذات يوم أطلعنا الشيخ كفتارو عن مشروع رائد يجري الإعداد له وهو المقدس العالمي وهو اختيارات من الكتب المقدسة للأديان يتم تداولها في كتاب واحد تؤدي الغرض والرسالة ذاتها، عبر رؤى ومواقف الأديان المختلفة، وطلب منا إعداد جدول بالآيات الكريمة التي تعزز المقاصد العليا للأديان وقد تمت ترجمتها وأرسلت لهم.

بالفعل بعد فترة صدر هذا العمل الكبير تحت عنوان المقدس العالمي World secrititure  ونشر بلغات كثيرة وليس منها العربية للأسف ولا يتضمن الكتاب أكثر من مختارات معينة من النصوص الدينية في كل الأديان كافة حول معاني مشتركة في الأخلاق والقيم، وتم الإعلان في صفحة الغلاف الأخير عن القادة الدينيين الذي قاموا بإعداد نصوص الأديان وكان من الرائع أن النصوص الإسلامية تم اختيارها بالكامل بإشراف إمامين من المسلمين هما الشيخ أحمد كفتارو والإمام الهندي وحيد الدين خان.

يطبع الكتاب اليوم بكل لغات العالم، ويعتبر أول وثيقة مشتركة يكتبها رجال الأديان في العالم وتتجاور فيها النصوص المقدسة لتخدم هدفاً إنسانياً نبيلاً واحداً لا خلاف فيه.

وفي خطوة أخرى نجح الشيخ كفتارو في التواصل مع ديانة الأوموتو وهي ديانة يابانية يعتقدها عشرات الألوف في كيوتو وتقيم معبدها في جبال أيابي، وقد زارهم الشيخ في معبدهم، وتحدث عن الإخاء والمحبة في جامعة الحب والسلام التي تتبع لهم، كما دعاهم إلى سوريا وبالفعل حضر فريق من أربعة أشخاص وقد أقاموا شهر رمضان في دمشق، وفي ليلة القدر أعلنوا أنهم يشهدون بوحدانية الخالق ويؤمنون بنبوة الرسول الكريم، ثم غادروا مع الشيخ إلى مكة المكرمة وقاموا بأداء العمرة الشريفة وعادوا إلى بلادهم وقد أضافوا قيمة روحية نبيلة إلى قيمهم وسجلهم، وحين زرتهم في معبدهم بعد سنين وجدت أنهم كرسوا قاعة خاصة لزياراتهم الروحية في العالم ومنها زيارتهم للبابا والدالاي لاما وللشيخ كفتارو، وقد خصصوا هذه القاعة لإخاء الأديان.

وستثير هذه الروايات بكل تأكيد سخط المتعصبين الذين يعتبرون ذلك كله تهاوناً في التوحيد وإقراراً للكفار على كفرهم، وسيرون في نجاحه مع الأوموتو مجرد خدعة خدعوه فيها إذ آمنوا وجه النهار وكفروا آخره، وأنهم لم ينزعوا ما هم فيه من نِحْلة ودين، ولم يهدموا معابدهم ويقيموا المساجد ولم يطردوا الكهنة ويستجلبوا المشايخ، وقناعتي أن الشيخ كفتارو رحمه الله كان يفكر بطريقة أخرى وكان يرى أن رسالته هي نشر المحبة والإيمان، وليس قتال الأديان وإثبات تحريفها وزيفها، وأن الأديان تشترك في القيم العليا للإنسانية.

ولا يمكنني للأسف أن أختم هذه المقالة دون الإشارة إلى الأحداث الثي وقعت قبل وفاة الشيخ رحمه الله بشهور بعد بلوغه التسعين من العمر، من بيان صادم، يتناقض مع روح التسامح والمحبة التي نرويها عنه، وهو كلام له ظروفه وأسبابه يحتاج لتفصيل في مكان آخر، وكذلك عن مواقف الشيخ السياسية المؤيدة للسلطة التي يتعرض بسببها إلى نقد شديد من القوى الديمقراطية والتحررية، ولكن حتى لا تتشتت الرؤية فإن ما يهمني أن أبينه للقارئ الكريم أن إخاء الأديان مدين لهذا الرجل في مبادراته الشجاعة، وأنه نادى بهذا المعنى قبل ستين عاماً في وقت كانت فيه هذه المبادرات تتهم بشتى أنواع الوصم والتشويه، ولكنه دافع بشجاعة عن رأيه واختياره، وفي سجله المصور لقاءات مع الديانات المسيحية واليهودية والبوذية والأوموتو والمونية وغيرها من الديانات، وهي اللقاءات التي كان يفتتحها دوماً بعبارته المشهورة: الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.