السلام يصنع ولا يستورد كالحروب

يقال لنا بأن الغرب فشل فشلًا ذريعاً بإنقاذ الشعوب من الفوضى والفساد والتخلف الإداري. يقال أن الولايات المتحدة أنفقت ٢٠٠ مليار دولار لإعادة إعمار أفغانستان, وجهدت لتغيير المجتمع الأفغاني على مدى أكثر من عشرين عاماً وبأنها اجتهدت لكي تجعل منها دولة ديمقراطية, تحترم فيها حقوق المرأة ولهذا تدخلت وانتهكت سيادتها.. ولكنها اليوم تقر بفشلها وبعدم وجود إمكانيات أكثر لديها لمساعدة هذا الشعب المنكوب. وفي العمق لربما هي فشلت بأبسط شيء وهو فهم عقلية أهل أفغانستان محلياً وأسلوب تفكيرهم وتركيبتهم وتعقيد تاريخ التعايش الثقافي بين المكونات هناك وكيف أنهم عاشوا على مدى قرون قبل تدخل الآخرين بتوازن ثقافي وسلام ترك لكل منهم على الأقل حرية التواجد وعدم الانقراض وإلا لما بقي هذا التنوع هناك إلى يومنا هذا.

لربما ما يقال عن أن الهدف الغربي كان إعماري صحيحاً جزئياً فقط لأن في تلك البلاد خيرات أيضاً والأهم هو موقعها الجغرافي الذي وضعها في محور صراعات القوى العظمى، دون أن يخير سكانها. تاريخياً هي سقطت في يد ما سميت بالنخبة الشيوعيين تحت تأثير تدخل موسكو، تماماً كما سقطت سوريا في يد النخبة الماركسية (البعث العربي الإسلامي السوفييتي) أو حلف الاتحاد السوفيتي. في ستينيات القرن الماضي، المحاصصة حينها كانت مقبولة بين الدول العظمى, طالما كانت تراعي توازن القوى بين القطبين وحصلت الأزمة عندما استطاعت الولايات المتحدة في الثمانينات إنهاء الاتحاد السوفييتي وإضعاف هذا القطب الثاني. ومع سقوط جدار برلين أصبحت الولايات المتحدة هي القطب الرئيسي في العالم بدون منازع وأصبحت هي فقط المحور، في مرحلة الحرب الباردة كانت أفغانستان نقطة جغرافية مفصلية في مواجهة الاتحاد السوفيتي. سوريا كذلك وقعت تحت نفوذ الاتحاد السوفييتي ولكنها حينذاك لم تكن تعني الولايات المتحدة، ولم تدخل محور اهتماماتها إلا حديثاً في مرحلة الربيع العربي حين استدعى الأمر إضعاف إيران وفرض موازنات جديدة في الشرق الأوسط.

المقارنة بين التجربة الأفغانية والسورية تبدو ممكنة من بعض الجوانب, مثلاً, وجود أغلبية سنية، كذلك تواجد النخب المثقفة سابقاً في معسكر الماركسية, وكذلك تفشي الفساد الإداري ورديفه أي تطرف الشارع السني المفقر ذو الأغلبية العددية والتي شعرت بغبن من موسكو الشمولية في الستينيات. تتوقف المقارنة بين البلدين اليوم ونحن نشهد على استسلام طالبان في أفغانستان لقواعد اللعبة الغربية وقبول الولايات المتحدة بحلفاء مختلفين ثقافياً عنها, بمعنى أنهم لا يحملون ذات القيم التي نادت بها لعشرين عاماً، وتتوقف المقارنة مع سوريا كذلك عند قبول الطالبان بمراعاة مصالح الولايات المتحدة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية مقابل حكم بلدهم داخلياً دون قيود غربية. ويبدو أن عشرين عاماً كانت كافية لإحداث نضج سياسي لدى طالبان وخصوصا بتطوير أسلوب الخطاب الإعلامي لديهم وكذلك أسس التعامل بمرونة مع الغرب ظاهرياً، ولربما في مرحلة الربيع العربي مؤخراً تم تبادل الخبرات في قطر بينهم وبين تنظيم جماعات الإخوان المسلمين العالمي الذي تحتضنه وترعاه قطر.

بالمحصلة هناك خيارين مختلفين للولايات المتحدة في دولتين كلاهما تواجهان خطر التفتت والدمار: الخيار في سوريا هو إبقاء النظام بقيادة الرئيس السوري بشار الأسد الذي وحده عملياً يملك الشرعية الدولية تماماً كما أعطيت هذه الشرعية الدولية لطالبان والحكم الإسلامي في أفغانستان.

لا يسعنا إلا القبول بالتعامل مع هذا الواقع وأي محاولة للقفز من فوقه هي تضييع وقت وتعريض الدول المعنية لفشل أكثر.

بكل واقعية لا بد أن نقر بأن بقاء الأسد كنصر طالبان هم أيضاً بالمحصلة قرارات المجتمع الدولي الذي من آخر اهتماماته ميول ومزاج الشارع في سوريا أو في أفغانستان.

بالنهاية حقوق الإنسان والمرأة في العالم الثالث لا تعني إلا فئة قليلة في العالم ولا تكفي لتغيير سياسات الغرب الخارجية التي بالنهاية توجهها المصالح الاقتصادية لتلك الدول.

لا تلوح بالأفق أي سياسة دولية محددة وواضحة فيما يخص مصير سوريا أو العراق أو لبنان وربما سيكون وضع أفغانستان كذلك غير محسوم إن دخلت في صراع داخلي كما في سوريا ولبنان والعراق.. أي لربما ستترك أيضاً أفغانستان للصراعات الداخلية وللفوضى والعنف كما في سوريا والعراق, لأجل غير مسمى وقد يتحارب سكان افغانستان كحال أهل سوريا على قليل من الذخيرة أو الماء وبول البعير والسبايا والغنائم.

هوامش كبيرة متروكة للصراعات مانعة عن أي طرف النصر أو الحسم

في ظل هذا الوضع المأساوي لانعدام المقدرة الدولية على إنهاء الصراعات. يفترض من الشعوب المعنية داخلياً تثمين قيمة الأمن والأمان على حساب المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

سلم ماسلو يؤكد أن الإنسان له أولويات في احتياجاته بعد الفيسيولوجية كالتنفس والماء والغذاء يأتي مباشرتاً الأمن والسلام كحاجة بقاء وثالثاً تأتي الاحتياجات الاجتماعية وليس قبل، بالتالي الحديث الشيق عن الديمقراطية والقيم يبدو غير واقعي أمام حجم الكوارث الإنسانية اليوم التي منعت عن الشعوب المنكوبة الحاجات الأولية.

ملايين من النازحين يهيمون بلا أمل أو يغرقون في البحار بحثاً عن ورقة لجوء في بلد أمن , هذا مصير الشعب السوري وبعد عشر أعوام لم ينتصر فيها أحد ولم يتمكن السوري من الحصول على أي مكتسبات جديدة مما حصل لربما يجب أن نسال أنفسنا: إلى متى يمكن القبول بهذا الواقع الكارثي للشعب السوري؟.

وهل من مخرج واقعي للشعب السوري يعيد السوريين إلى ديارهم ووطنهم ويعيد الأمن والأمان؟.

الحروب الداخلية أعادت الشعوب في كل من العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان لمراحل بدائية لخمسين عاماً للوراء، وكل هذا زاد من حدة الظلم الاجتماعي للمرأة والأقليات ومع توحش الواقع الأمني والاقتصادي والإنساني بات أي حديث عن الفكر والتطور السياسي وحتى عن المواطنة ترف.

الحديث عن حقوق الإنسان الذي ما زال يتغنى به مثقفو العصر الماضي بات حديثاً فارغ المعنى في ظل هذا التجويع والقتل والعنف الذي تعيشه شعوب الشرق الأوسط.

هل تجربة أفغانستان التي دامت أكثر من عشرين عاماً تعتبر درساً للسوريين ليعوا أن لا أحد منقذ من الخارج وبأن الحلول تكون من ذاتنا من إمكانية العمل داخلياً على النضج والتغيير والقبول بالأخر والقبول بالواقع لتطويره.

لربما حلمنا فوق الواقع وقفزنا بأحلامنا أكثر مما نملك من إمكانيات وما زال الحلم مشروعاً ولكن الجديد الذي يجب أن نطرحه هو ما هي الخطوات الطويلة الأمد والقصيرة الأمد التي علينا أن نخطوها لكي نحول الحلم لمشروع أو مشاريع نمضيها سوياً.

بالنهاية السوريين على اختلافهم وصراعاتهم يحلمون اليوم بذات الشيء قد يسخطون على تلك وتلك من الدول التي تدخلت وقد يكرهون جارهم في الوطن وينقمون عليهم وقد يتمنون الموت لبعض ويعلنون عن انعدام الثقة فيما بينهم لكنهم لهم ذات المتطلبات هم وأخيهم العدو.. كل سوري يحلم بالعودة لمدينته وأن يدفن هناك ويحلم بأن يعيش بأمان وهدوء ورخاء في بلده ومسقط رأسه.. يرفض جميعهم التهجير القسري والتغيير الديمغرافي لذاتهم وما لجأوا لأوروبا وأميركا إلا هرباً من القتل والعنف حفاظاً على سلامة أولادهم وسلامتهم ولكنهم ليسوا سعداء في دول اللجوء رغم توفر كل الظروف المادية الأفضل تبقى هناك معاناة لن تنتهي وجروح لن يندمل إلا بالسلام واليوم هذا المطلب.