لماذا قدم سكان بريف الحسكة خبزاً لضابط روسي؟
تل تمر – نورث برس
ما يزال سكان في بلدات وقرى بريف الحسكة الشمالي، شمال شرقي سوريا، وسوريون كثيرون محتارين في ما يجب أن يتخذوا من مواقف وأفعال بعد تعرض منازلهم الأسبوع الماضي لقصف تركي “دامٍ”.
ومساء الثلاثاء الماضي، تسبب قصف للقوات التركية وفصائل المعارضة الموالية لها على بلدة أبو راسين شمال الحسكة بمقتل طفل وامرأة وإصابات بين السكان المدنيين، تم إسعاف 16 منهم إلى مشافي المدن القريبة.

وصباح الأربعاء، اجتمع سكان حول ضابط روسي في موقع سقوط قذيفة تركية، بعد أن اعترضوا سيارته وجعلوه يترجل من سيارته واصطحبوه معهم لمشاهدة آثار القصف.
وطلب أحد السكان المتحلقين حول الضابط أن ينظر إليه حين يتناول لقمة من رغيف الخبز الذي بيده.
ثم انتزع قطعة صغيرة وقدمها للضابط الذي رفضها بداية، فتعالت الأصوات باللغتين العربية والكردية “لا يجوز رفضها، قبولها إجباري، تناولها”.
أمسك الضابط لقمة الخبز بيده وتناولها، ليلقي الرجل بموعظته “صار بيننا خبز وملح ولا ينبغي أن تخونونا مجدداً”.
وروسيا هي من اتفقت مع تركيا على اتفاق وقف إطلاق النار في المنطقة أواخر العام 2019 حين غزت تركيا منطقتي سري كانيه (رأس العين) وتل أبيض، بينما أبرمت الولايات المتحدة اتفاقاً مماثلاً مع الأتراك في الفترة نفسها.
ويحمّل سكان البلدة روسيا والولايات المتحدة مسؤولية عدم إيقاف القصف التركي باعتبارهما الضامن لاتفاقي وقف إطلاق النار، ويعتبرون صمتهما ضوءاً أخضر لتركيا كي تستمر في استهدافها لمناطق الإدارة الذاتية التي تعتبرها معادية لها.
ولم يُعرف بعد ما إذا ما كان مقدم الخبز والمتحمسون لسلوكه ذلك اليوم قد أرادوا التهكم بالسياسة الدولية “اللاأخلاقية” بنظرهم عبر استحضار قيمة تراثية محلية.

أم أنهم أرادوا ممازحة الضابط بعد أن اعترضوا سيارته وأرغموه على التجول معهم على المنازل التي دمرها القصف التركي.
فبعد أكثر من عشر سنوات من الحروب والأزمات في بلادهم، يتباين سوريون في نمط سلوكهم حيال الحرب وأزماتها، ويمثل التحاذق والتهكم والشتيمة والدبلوماسية الهادئة أبرز أساليب النقاش أثناء تداولهم أحوال البلاد في أكثر لحظاتهم ألماً وحيرة.
ورغم أن أبو راسين بلدة صغيرة تتبعها بضعة قرى بالقرب من الحدود السورية التركية، إلا أن حالها نموذج لحال البلاد عموماً من جهة ارتهان مصيرها لاتفاقات لا حول للسوريين فيها.
وما أشار إليه الرجل في أبو راسين هو تراث مشترك لشعوب المنطقة وربما في الشرق كله، مفاده أنه لا يجوز خيانة من تناولت خبزه أو طعام منزله.
لكن أكثر السكان بساطة في هذه البلاد باتوا يستذكرون بسخرية الشعارات التي أطلقتها قوى إقليمية ودولية باسم مآسي السوريين، إذ يعتقدون الآن أنها كانت بهدف تسيير مصالح وتوسعة نفوذ.
ووعد الضابط الروسي في ذلك اليوم، وحين اعتصم سكان في اليوم التالي أمام القاعدة الروسية في محطة المباقر شمالي تل تمر بأن يوصل مطالب السكان لقيادته التي ستتواصل مع الجانب التركي.
لكن القصف التركي استمر، خلال الأيام اللاحقة، على بلدتي تل تمر وأبو راسين وريفيهما، وأرياف حلب ومنبج والرقة الشمالية.
والخميس الماضي، قضى أربعة قياديين في وحدات حماية الشعب والمرأة في استهداف جوي تركي لمقر المجلس العسكري لبلدة تل تمر، وفقد قيادي آخر حياته في استهداف طائرة مسيرة تركية سيارته.
ويوم أمس الأحد، استهدفت مسيّرة تركية سيارة في قرية هيمو قرب القامشلي، ما تسبب بإصابة قيادي في “الأسايش” ومدنيين اثنين.
وقال بيانان منفصلان لقيادتي “قسد” و”الأسايش” إن أولئك القياديين كانوا في الجبهات الأمامية أثناء الحرب ضد تنظيم “داعش” في كوباني ومنبج والرقة ودير الزور.
والليلة الفائتة، عاد القصف التركي على قرى آهلة بالسكان في ريفي أبو راسين وتل تمر.
يقول والد ثلاثة أطفال هدّم القصف التركي منزلهم فوق رؤوسهم، وكان ممن اعترضوا سيارة الضابط الروسي ذلك اليوم: “شو دخلني أنا المواطن المعتر المسكين”.