القامشلي ـ نورث برس
تكشف رواية “ملعون دوستويفسكي” للروائي عتيق رحيمي، عن زيف الشعارات والسلوكيات الاجتماعية، والعُقَد الدينية، والتفنن في القتل، حيث يقدم الكاتب فيها صورة مأسوية عنيفة عن أفغانستان من خلال جريمة العجوز “نانا عليا”.
وذلك وقبل أسبوع من سيطرة حركة طالبان على بلد مزقته الحروب، بعد بدء القوات الأميركية الخروج من أفغانستان، وسط موجة من الانتقادات اللاذعة.
خروج الولايات المتحدة بهذه الطريقة، حدث غير طبيعي في بلد يعيش حياة غير طبيعية، وهذه الرواية التي تدور أحداثها في حقبة ما بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان، تذكرنا أيضاً بالمشاهد المأساوية عَقِب الخروج الهوليودي للأميركان.
وصف الرواية وارتحالاتها
وتحاكي جريمة “نانا عليا” في رواية “ملعون دوستويفسكي” جريمة راسكولنيكوف بحق العجوز في رواية “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي.
والسؤال هو: أكانت جريمة خيالية؟ جريمة مُتوَهَّمة؟ “لا لشيء إلا لتسليط الضوء على عبثية الحياة والقتل في أفغانستان، هذا البلد الذي سقط رغماً عنه في لعبة صراع الأقطاب.. والغارق أصلاً في حروبه الأهلية.
وولد الروائي عتيق رحيمي في كابل عام 1962، من أسرة ليبرالية، يكتب باللغتين الفارسية والفرنسية، وهو مخرج أفلام، وبعد الاجتياح السوفييتي لأفغانستان، وانهيار النظام السياسي غادر إلى فرنسا، وهناك أتم دراسته وحصل على الدكتوراه في الاتصالات البصرية.
ويرى أحد نقاد الرواية أن ما يمر به راسكويلنكوف من أزمة نفسية خانقة بعد جريمته هو ما يتكرر لدى “رسول” بطل رواية “ملعون دوستويفسكي”، حيث يعيش البطل منفصلاً عن واقعه عقب قتله العجوز التي تعمل عندها خطيبته “صوفيا”، وأراد بذلك إنقاذ حياة صوفيا وأمه وأخته بما يأخذه من المجوهرات والأموال.
لكن “رسول” لم يصل إلى غايته، بل وقع بين عُقْدة الذنب وتأنيب الضمير. ويترك الكاتب قارئه في دوامة من التساؤلات مع بطل روايته، إذ أحياناً يتصور المتلقي أن رسول لم يتورط في جريمة القتل فعلياً، بل كل ما في الأمر هو أن الأخير كان يحاكي شخصية راسكولنيكوف في تخيلاته. وكأن لعنة دوستويفسكي قد حلت عليه، بل على أفغانستان كلها.
الجريمة والعقاب ولكن بلا أثر
تتفرع من الجريمة ألغاز غياب الأثر لوقائعها، حيث لا يوجد دليل ملموس، مع أن الراوي يستعيد تفاصيل ما أقدم عليه الجاني مصوراً تتبعه للعجوز إلى غرفتها ولحظة وقوعها على الأرض مضرَّجة بالدماء.
ويعمد الروائي من خلال هذه الصورة المشحونة بالدلالات ربط كل الجرائم والصراعات الضارية بالعامل الاقتصادي، إذ تتأكد هذه القناعة لدى المتلقي عندما يكتشف بأن صورة مقتل العجوز هي جزء من مشهد واسع للقتال في مدينة كابل حيث تحولت إلى مسرح لحرب الكل ضد الكل.
التصعيد في السرد
يوظف الكاتب تقنية التداعي الحر لكشف هواجس البطل، حيث يدرك القارئ وجود مزيد من عناصر متماثلة بين رسول وشخصيات دوستويفسكي على مستوى التركيب النفسي، حيث التموقع في الحدود الفاصلة بين الخير والشر، والمشاكل الجوانية التي تتعلق بالشخصية الأفغانية ككل.
كذلك يمتحن رسول هذه التجربة التي تتنازعها مشاعر متناقضة. فمن جهة يَكنُّ كراهية للعجوز ومن جهة أخرى يقدم المال لمن يطلب منه المساعدة، وينقذ الجرحى من تحت أنقاض خلقتها الانفجارات، كما يبدو عدوانياً مع صاحب البيت “يرموحد”، بالإضافة إلى دوافعه الغريزية تجاه زوجة “يرموحد”.
وفي الوقت نفسه تجد نقيض هذا السلوك في تعامله مع صوفيا، حيث يعتبرها مثالاً للنقاء، ويتجلى في حبه لها منحى روحياً.
كما يوظف الكاتب تقنية السخرية المستمدة من وقائع تجمع بين الكوميديا والرعب. ويعتمد أسلوباً غير مباشر لإيصال دلالات عميقة مثل مقاضاة الحمامة بمسدس “كولد أميركي”. وبذلك يكون أُسلوب شخصية البطل أكثر تقارباً مع راسكولينكوف.
عقدة الذنب والتكفير عنه
لا يتحمل “رسول” وزر الجريمة كما لا يقتنع بأي تبرير لها، من هنا يريد أن يُسلِّم نفسه، لكن قبل ذلك يُعتقل بعدما تأخَّر في دفع إيجار البيت، ويتوهم أن اعتقاله يأتي بعد اكتشاف هويته كقاتل العجوز، لذلك يفقد القدرة على النطق ويصبح أبكماً، ويلجأ إلى كتابة إجاباته لأسئلة المتحاورين معه.
تنتهي الرواية بحضور رسول في مكان عام لتنفيذ حكم الإعدام عليه. ولا تنفع توسلات قريبه رازمودين بأنَّ رسول ليس قاتلاً إلا في تهويماته.
وصف الفيلسوف “نيتشه” دوستويفسكي بأنه كان إنسانياً أكثر مما ينبغي. هذه الخصال انتقلت من الكاتب إلى شخصيات رواياته، وأكثر من يجسد هذا الإفراط في الإنسانية هو راسكولينكوف.
وهذا ما فعله “عتيق رحيمي” بشخصية “رسول”، الذي “يجيش في صدره بكاء لا يعرف كيف يتخلص منه. يبحث عن سيجارة في جيبه. تلتطم يده بالمسدس. يرتجف. وتأخذ دموعه بالانهمار. إنه يبكي موته”.. موت بلده أفغانستان.