التجربتان السوفياتية والأميركية في أفغانستان

خلال أربعة عقود من الزمن فشلت إحدى الدولتين العظميين في نظام الثنائية القطبية، أي الاتحاد السوفياتي، في تجربتها الأفغانية، فاختارت الانسحاب الذي كان أحد علامات بداية انهيار الاتحاد السوفياتي خلال ثلاث سنوات، فيما فشل القطب الواحد الأميركي للعالم في تجربة “بناء الأمم”، التي كانت تريدها إدارة جورج بوش الابن الغازية لأفغانستان بخلاف ما يقول جو بايدن الآن، فاختار تسليم البلد للخصم الذي أسقطه الأميركي عام 2001 والذي حاربه طوال عشرين عاماً مضت، وهو، أي الأميركي، كان يستطيع البقاء، ولكنه اختار الانسحاب العسكري وفق اتفاق وقعه مع الخصم وهو يعرف بأن الحكومة الموالية للأميركي ستنهار بسرعة أمام ذلك الخصم.

فشل السوفيات لأنهم فرضوا حكومة شيوعية موالية لهم بعد غزوهم العسكري لأفغانستان في السابع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1979 ضد حكومة شيوعية أكثر استقلالية عنهم حاولت البحث ،أمام مأزقها الناتج عن سيطرة المعارضة الإسلامية المسلحة المدعومة من باكستان على الأرياف، عن حل سياسي مع الإسلاميين عبر مفاوضات سرية رعتها واشنطن، مما دفع موسكو للتدخل العسكري لمنع ذلك. كان الحزب الشيوعي (بعد إعادة توحيده أوائل عام 1978) قد وصل للسلطة عبر انقلاب عسكري في يوم السابع والعشرين من نيسان/ أبريل 1978 ولكنه سرعان ما انقسم بعد شهرين وفق خط انقسام الحزب عام 1973 بين جناح (خلق- الشعب)، الأكثر استقلالية عن السوفيات بزعامة نور محمد طرقي وحفيظ الله أمين والذي تركز بين الأكثرية القومية من الباشتون، وبين جناح (بارشام- الراية)، الأكثر قرباً من السوفيات بزعامة بابراك كارمال (من الطاجيك) ومحمد نجيب الله (من الباشتون) والذي تركز في أقليات الطاجيك وشيعة الهازارة، مما قاد لإبعاد كارمال ونجيب الله كسفراء في الخارج. أمام المأزق الشيوعي، المتمثل في فرض حكم الحزب الشيوعي في بلد متخلف عبر انقلاب عسكري، قام أمين، الذي أصبح رئيساً للوزراء في آذار/ مارس 1979 بإبعاد طرقي في أيلول/ سبتمبر 1979 وانتهج سياسة الانفتاح التفاوضي على الإسلاميين، الذين كانوا بدورهم منذ أوائل السبعينيات قد انقسموا بين (الجمعية الإسلامية)، ذات الانغراس الاجتماعي بين الطاجيك، بزعامة برهان الدين رباني وبين (الحزب الإسلامي)، الذي تزعمه قلب الدين حكمتيار والذي انتشر بين الباشتون، ولكن وكما انقسم الشيوعيون من جديد في صيف1978وهم في الحكم فإن الاسلاميون قد تقاربوا في معارضة الحكم الشيوعي عبر مقاومة مسلحة أصبحت مدعومة من باكستان ومن خلف الأخيرة واشنطن والرياض، ثم ازدار توحد الإسلاميين مع تحويل الأميركان لأفغانستان إلى ساحة رئيسية للصدام الأميركي مع السوفيات إثر التدخل العسكري السوفياتي أواخر عام 1979 الذي تم فيه إسقاط حكم شيوعي أكثر استقلالية عن السوفيات وتنصيب شيوعيين أكثر قرباً من موسكو.

هذا الانقسام الباشتوني- الطاجيكي قد حكم الإسلاميين عند سقوط كابل بيدهم في السادس عشر من نيسان/ أبريل 1992 وانهيار حكم محمد نجيب الله، بعد اكتمال الانسحاب العسكري السوفياتي في الخامس عشر من شباط/ فبراير 1989 وفقاً لاتفاقية الرابع عشر من نيسان/ أبريل 1988، حيث سيطرت قوات (الجمعية الإسلامية)، بقيادة القائد العسكري أحمد شاه مسعود، على العاصمة، بالتحالف مع القائد العسكري من الأوزبك عبد الرشيد دوستم، فيما أحست باكستان بأن فشل حكمتيار في ذلك هو فشل لجهد كانت فيه إسلام آباد هي الظهير الرئيسي للمعارضة الإسلامية للسوفيات والشيوعيين طوال ثلاثة عشر عاماً، وهو ما دفعها عام 1994 إلى تأسيس حركة طالبان كبديل باشتوني عن حكمتيار وكمخلب باكستاني للوصول إلى حكم أفغاني موال يؤمن للباكستانيين منفذاً برياً إلى آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، بكل ما تحويه من نفط وغاز ومناطق لتصارع النفوذ بن الأتراك المدعومون من واشنطن وبين إيران، وهو ما استطاعت طالبان تحقيقه عام 1996 ولكن لتبدأ معارضة مسلحة لها بقيادة شاه مسعود عبر تحالف شمالي مستند للطاجيك والأوزبك والهازارة، هو الذي أوصله الأميركان للسلطة بعد إسقاط حكم طالبان عام 2001، ثم تركته واشنطن عام 2021 يسقط أمام طالبان.

التجربتان السوفياتية والأميركية في أفغانستان تدلان على أنه لا يمكن القفز فوق (المحلي) من قبل القوة الخارجية الغازية، وأن من يعمل العكس سيفشل، كما أن القوى المحلية مهما كانت أيديولوجياتها فهي محكومة بطبيعة التربة الداخلية حيث لا يمكن أن تزرع زرعها بمعزل عن مراعاة التربة كما أنها تتشظى وفقاً للتربة إن لم تنجح في الزرع وهو ماحكم تجربتي الشيوعيين والإسلاميين الأفغان، وكذلك خضعت لمفاعيل ذلك تجربة السوفيات والأميركان عندما اصطدما بمفاعيل التربة المحلية المضادة. وعلى الأرجح أن البريطانيون الذين كانت لهم تجربة فاشلة في السيطرة على أفغانستان بالقرن التاسع عشر كانوا يعون ذلك في تجربتهم الاستعمارية التي تتضمن سيطرة خارج على داخل وتسييره حسب طبيعة التربة المحلية ومكوناتها، حيث كانت تجربتهم الهندية ناجحة في ذلك وكذلك كانت ناجحة في ترك ألغام تنفجر بعد خروج البريطانيين (مسألة كشمير وكذلك النزاع الهندي الباكستاني بعد تقسيم الهند)، فيما فشل السوفيات في معادلة سيطرة خارج على داخل في أفغانستان وفي دول حلف وارسو بينما فشلت واشنطن في تجربتيها العراقية والأفغانية.