عيد الصحافة السورية.. أجور متدنية وكتابة بحبر الخوف وغزو لأشباه الصحفيين
دمشق ـ نورث برس
الطابع الاحتفالي السنوي في “عيد الصحافة السورية” غالباً ما يترافق مع تعليقات ساخرة للعاملين في ذلك المجال، تتساءل عن حجم الحريات، ومستوى المهنة.
وقد اختصر أحد الصحفيين العيد بالتساؤل: “هل هناك صحافة ليكون لها عيد؟”.
واختير الخامس عشر من شهر آب/ أغسطس من كل عام عيداً للصحافة السورية في عام 2006.
وفي ذلك العام، زار الرئيس بشار الأسد المؤتمر العام الرابع لاتحاد الصحفيين تزامناً مع “انتصار المقاومة في جنوب لبنان حيث تركت هذه الزيارة انطباعاً إيجابياً لدى الصحفيين وشددت على المكانة التي تحظى بها مهنتهم”، بحسب ما ذكرت وكالة “سانا” الحكومية.
ولم تكن بيئة العمل الإعلامي في سوريا وعبر عقود ملائمة لإنتاج صحافة متطورة، لكن يمكن القول بأنها لم تصل يوماً إلى السوء الذي هي عليه في هذه المرحلة، بحسب صحفيين.
ويتفق كثير من العاملين في الصحافة السورية على استخدام كلمات مثل “الدخلاء على المهنة” “عديمي الموهبة”، وغيرها، والتي تشير إلى أنه ومع تسرب غالبية الكوادر، “ظهر أشباه الصحفيين في بيئة عمل لا تتطلب أكثر من هؤلاء الأشباه”.
وقد شاع مؤخراً فتح الباب أمام موظفين إداريين في المؤسسات الإعلامية للعمل كصحفيين، أو أشخاص لم يدرسوا الصحافة، ولم يخضعوا حتى لدورات تدريب، يعملون محررين رغم نقص المؤهلات.
اختصاص مغاير
تقول الصحفية ربا أحمد (50 عاماً) وتعمل في صحيفة تشرين، المقربة من الحكومة، إنها عبر مسيرتها المهنية في تلك المطبوعة كانت شاهداً على نقل الكثير من الموظفات إلى التحرير، وهناك سكرتيرات وموظفات في الأرشيف والسكنر أصبحن صحفيات بشهادة ثانوية وربما أقل.
ويضيف الإعلامي محمد شعبوا (39 عاماً) وهو اسم مستعار لصحفي يعمل في التلفزيون، إضافة لعمله في صحيفة الثورة، أن المعايير والخبرات ليست أساسية للترقي والتدرج في المهنة.

ويقول لنورث برس: “لذا يصبح من الممكن أن تجد من لا يحوي سجله أو تاريخه المهني عشر مواد صحفية أصبح رئيس تحرير، والواقع خير دليل على هذا، أو من لا يملك من الخبرات المهنية والعملية أي شيء مدير تحرير أو أمين تحرير، لأن الفكرة في تخصيص المزايا لهذا المنصب لذاك الشخص، كتسليمه سيارة ومخصصات بنزين، إضافة إلى سقف استكتاب مرتفع وغيرها من المزايا التي لا تتجاوز قيمتها في أحسن أحوالها 200 ألف ليرة شهرياً”.
ويفرض هذا الواقع بيئة عمل وصفها صحفيون مختصون بـ”السيئة للغاية”، خاصة مع انخفاض المردود المادي.
ولا تتجاوز تسعيرة المواد أو ما يسمى (الاستكتاب) 8 آلاف ليرة لأفضل تحقيق برأي القائمين على الجريدة.
وشددت هناء علي (55 عاماً) وهو اسم مستعار لصحفية تعمل في جريدة البعث الحكومية، على أنها في إحدى التحقيقات المشتركة مع زميلة لها، أجري في محافظة أخرى عن “عقود المزارعة في الساحل” بلغ المبلغ الذي خصصوها به 600 ليرة سورية، تقسم مناصفة مع زميلتها التي شاركتها في الموضوع.
وعندما اعترضت “علي” على المبلغ قال لها أمين التحرير، “وما أدرانا بالمبالغ التي قبضتموها من أصحاب المشكلة!”.
تضيف إحدى العاملات في قسم المالية بصحيفة الثورة المعنية بتحديد قيمة المواد الصحفية أن تسعيرة الخبر ارتفعت من 100 ليرة إلى 300 والآن 600 ليرة، وأعلى رقم وصله التحقيق هو 8 آلاف ليرة.
ويشدد بعض الصحفيين على أن قيمة الاستكتاب لا تغطي تكاليف التنقل، أو الاتصالات، خاصة مع أزمة المواصلات والتقتير في مهمات السيارات التي كانت تمنح للحصفيين في حال توجههم إلى الجهات التي يجب التواصل معها لإنجاز الموضوع.
و أشار عبد الله محمد وهو اسم مستعار لصحفي متقاعد، لنورث برس، إلى أن المبالغ المخصصة “للاستكتاب” استخدمت من قبل بعض رؤساء التحرير لكسب الولاءات في الصحف.
وأضاف: “يتم تخصيص مبالغ من الاستكتاب لمن يرغب رئيس التحرير بمكافأتهم على مهمات تطلب منهم، وبهذا يصبح هنالك حصة من المبالغ القليلة التي يجب أن يحصل عليها الصحفيون للسائقين أو المستخدمين وغيرهم”.
وضمن سياسة التقتير أيضاً تم تحديد مدة المكالمات الهاتفية التي يمكن أن تجريها من مقسم الصحف بما لا يتجاوز 4 دقائق.
وتصف الإعلامية هند مسلم (40 عاماً) هذا القرار بأنه “الأسوأ”، لأنه أعاق العمل كثيراً، ويحرج الصحفي عندما يتواصل مع أي مسؤول وتنقطع المكالمة أثناء الحديث، ويصبح عليه إعادة التواصل مع الشخص أو أن يختصر ويتحدث عبر هاتفه الجوال، وهو ما يعني زيادة الأعباء المادية أمام راتب لا يحتمل.
ولهذا يكاد يغيب أي عمل جدي أو متميز لسببين حتى لمن يوجد لديهم المؤهلات لكتابة مادة جيدة كما تضيف “مسلم”.
والسبب الأول هو عدم وجود عائد مادي، والثاني هو بسبب الرقابة والتشدد في هامش النشر، وهذا يضيق ويتسع قليلاً تبعاً لرئيس التحرير.
وتشير إلى أنه “تجد من يتشدد في الالتزام بإيقاع رتيب ومصطلحات محددة مملة، وقد يحدث أن يتسع هذا الهامش قليلاً، ولكن الهامش، في المحصلة، ضيق ومسقوف دائماً”.
كوادر قديمة
وفي استقراءه لواقع الإعلام عموماً يقول بسام الحمد وهو اسم مستعار لإعلامي في دمشق، عمل الكثير من الأبحاث عن الإعلام السوري في محاضراته عن الإعلام، إنه “ضمن وسائل الإعلام الحكومية وحتى الخاصة، هناك عدد من البوابات قبل أن تصل المادة للنشر”.
ويضيف: “على كل بوابة مسؤول نشر أو تحرير، يحذف ويعدل بما ينسجم مع السياسة العامة، يضاف إلى تلك الرقابة ما يعرف بالرقابة الذاتية التي اكتسبها أو يكتسبها الصحفي من خلال الخبرة”.
وفي سوريا يسمح لأجهزة الأمن بأن تكون هي الضابط الأول لإيقاع الإعلام في البلد، ففي النشر الذي لا يمكن تجريمه عبر المواد الخاصة في القانونين المخصصين للنشر (قانون مكافحة الجريمة المعلوماتية، وقانون الإعلام)، يستطيع أي جهاز أمن أن يستدعي أي صحفي أو حتى رئيس تحرير ويحقق معه، بحسب “الحمد”.
لم يتم رفد الكادر في المؤسسات الإعلامية بوجوه جديدة، وكان آخر تعيين في الصحف كما قالت إحدى العاملات في ذاتية وزارة الإعلام إنه في بداية الحرب ضمن مشروع أطلق عليه اسم “تشغيل الشباب”.
وفي ذلك الحين، تم تعيين 14 خريجاً في مختلف وسائل الإعلام، وهذا ما يراه بعض رؤساء الدوائر في هذه الوسائل أنه من أسباب الرتابة التي صارت تميز عمل الجميع، خاصة من الأكثرية الذين أصبحوا في الخمسينيات من العمر، في معظم الوسائل الإعلامية، وهؤلاء يعملون بعقلية وإيقاع الموظف وليس الصحفي.
مصادر المعلومات
ويعاني معظم الصحفيين من صعوبات في رحلة الحصول على المعلومات، حيث تعتمد أغلب الوزارات على آلية عمل تم حصرها بمكاتب صحفية في الوزارات تتطلب من أي صحفي يريد أي معلومة أن يقدم معاملة تشبه معاملة التوظيف.
وينتظر الصحفي طويلاً ولا تصله أي إجابات خاصة في وزارات كالمالية، أو الاقتصاد، أو الجمارك.
ويقول عماد محمد وهو صحفي يعمل في صحيفة تشرين، إنه سئم من كتابة مصطلح “انتظرنا أشهر ولم يصلنا الجواب من هذه الجهة أو تلك، لأن هذا هو السلاح الوحيد للصحفي ووسيلته أمام تطنيش الجهات الحكومية”.
ويعتقد “محمد” أن هذه الجملة كانت الجهات العامة “تخشاها” في السابق، أما الآن “بعدما أصبح جمهور هذه الوسائل يمكن إحصاؤه على أصابع اليد الواحدة لم يعد لهذه الجملة أي معنى، وفقط تكريس اللاجدوى المادية والمعنوية من العمل”.
ويشير إلى أن المسؤولين يتجنبون التحدث إلى الصحفيين دون الحصول على موافقة من الوزير تصل عبر المكتب الصحفي مهما كانت المعلومات بسيطة ومتاحة، لأنهم يخشون من أي مشكلة قد يسببها لهم تصريحهم، أو استياء الوزير وغيره.
رأي واحد
وتقول الدكتورة التي لم ترغب بذكر اسمها والتي درست لعقود في كلية الإعلام لنورث برس، إن “الصحافة تتجه في سوريا إلى مزيد من منع الرأي الآخر، وهذا ليس بجديد لكنه يزداد حدة وشراسه، وهذا الاتجاه يتحقق عملياً على الأرض عبر عدة وسائل أولها الملكية”.
وسائل الإعلام الكبرى تتجه إلى مزيد من السيطرة الحكومية إذ لا يوجد غير الوسائل التي تمولها الحكومة، وحتى تلك الوسائل التي لا تمولها الحكومة إنما تقع ضمن سيطرتها، (رغم أنها قليلة ومعدودة: قناة سما التلفزيونية، وصحيفة “الوطن”، وبعض الإذاعات)، والاستثناءات طفيفة، بهوامش تكاد تكون متقاربة، بحسب الدكتورة.
وتشير إلى أن الإعلام الحكومي “يخضع لسيطرة مباشرة ومعروفة”، أما الوسائل الأخرى مثل الإذاعات المعروفة “شام اف ام” و”المدينة اف ام” و”نينار اف إم”، فلم يسجل لها أي موقف خارج السياق العام سواء في الاقتصاد أو السياسة، وتبقى الهوامش من النوع غير المحظور كالتسابق على الخبر ضمن المسموح.
وتفسر ذلك بالقول: “أي أن وسائل الإعلام الكبرى إما أنها ممولة وتخضع لسيطرة الحكومة، وتحدد لها السياسية الإعلامية، أو وسائل لا تمولها السلطة، لكنها تخضع لها بحكم التحالف الحكومي مع أصحاب رؤوس الأموال أصحاب هذه الوسائل”.
بيئة قانونية
وفي العودة إلى القوانين التي يخضع لها العمل الصحفي يتبين أنه قانونياً هنالك تشريعان يختصان بوسائل التعبير عن الرأي بشكل عام أو بالصحافة، وهما قانون الإعلام والمرسوم رقم (17)، “التواصل على الشبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتية”، والتشريع الأخير هو الأكثر إعاقة للعمل الصحفي.
وقانون الإعلام وصفه بعض الصحفيين بـ”المتطور” قياساً ونسبة إلى الحجم الكبير للجرائم والعقوبات القاسية التي كانت تحفل بها القوانين السابقة، إذ أنه لا يتضمن عقوبات سجن للصحفيين.
لكن بعضهم شدد على أن التشريع الذي يشكل هاجساً عند الصحفيين هو قانون مكافحة الجريمة المعلوماتية، إذا أن هذا القانون يحوي ضمناً الكثير من الجرائم غير المحددة بدقة مثل “وهن نفسية الأمة”، “إضعاف الشعور القومي” وكذلك جرائم القدح والذم والتحقير.
إلا أن ذلك القانون لا يطبق إلا على ما يكتب باستخدام أجهزة الحاسوب، سواء على موقع الكتروني أو مواقع التواصل وبما أن معظم الصحف الورقية توقفت عن الطباعة وأصبحت الكترونية بعد كورونا، فقد أصبح القانون يشكل هاجساً لدى الصحفيين كما أشار بعضهم. باستثناء أولئك الذين يلتزمون بالتعليمات والتوجيهات وهم معظم الصحفيين.
وعن دور اتحاد الصحفيين قال بعض الإعلاميين، إنه يكاد معظم الصحفيين السوريين يتفقون على أن الاتحاد لا يمثلهم في الواقع، وحتى مشاهد الانتخابات، يعرف الجميع أنها “صورية” وأن رئيس الاتحاد وأعضاء المكتب التنفيذي يتم تعيينهم، قبل إجراء “الانتخابات” المعروفة نتائجها سلفا.
وفي واقع كهذا تم اعتماد “عيد الصحافة السورية” يخص السوريين فقط، وهو عيد يدعى إليه الصحفيون للاحتفال، وإلقاء الكلمات، وليس لمناقشة هموم المهنة في بلد يأتي دائماً في المواقع المتأخرة ضمن تصنيفات المنظمات المعنية بحرية الصحافة، بحسب صحفيين.