زوجات “شهداء النظام”.. أجساد للمساومة وسط واقع مرير

تحقيق: رامي إلياس

استقلت زوجة “شهيد” سيارة أجرة أوصلتها من مكان عملها إلى منزلها في حي مزة جبل الشعبي في العاصمة دمشق، لتجد بعدها وبشكل متكرر سائق السيارة بانتظارها نهاية دوامها، ويخبرها أنه في طريقه إلى ذات المكان الذي أوصلها إليه في المرة السابقة.

لاحقاً امتنعت لينا محلا (33 عاماً)، عن ركوب سيارته بعد اكتشافها قيامه “بحركات غير طبيعية” خاصة أنه بدأ يرفض أخذ الأجرة منها.

“مرة دق الباب، فتحته، شفته واقف وصار بدو يطلع عضوه وقلي:  ما حلك تفهمي علي (….)، أنا بروقك وبعجبك وأنت بلا رجال”.

فردت عليه بحنق شديد: “مفكر حالك رجال، انقلع من هون أحسن ما لم عليك الناس”.

أما رنيم أحمد (30 عاماً)، التي لقي زوجها مصرعه في بدايات الحرب عام 2011 وهي بعمر 20 عاماً، فتقول إنه بعد عودتها ذات مرة إلى البيت رن الهاتف، وكان المتحدث أحد الضباط الذين قابلتهم وهي تجري معاملة تعويض وفاة زوجها، يعرض عليها الزواج مقابل منحه ملكية نصف المنزل الذي اشترته بالتعويض الذي حصلت عليه بعد مقتل زوجها.

في مواجهة الغرائز

تشير تقديرات موظفين في “مكاتب الشهداء” في أكثر من محافظة، طلبوا عدم الإفصاح عن أسمائهم أن أكثر من 90 بالمئة من الأرامل كن تحت سن الأربعين عندما قتل أزواجهن، وأكثر من نصفهن كن في العشرينات من العمر.

في هذا التحقيق تحدث المعد إلى تسعة آرامل فقدن أزواجهن في الحرب إلى جانب الجيش الحكومي، قبلت ستة منهن إجراء مقابلات بأسماء مستعارة، في حين رفضت ثلاثة منهن التحدث بسبب اقتناعهن بعدم “جدوى الحديث”، وعدم رغبتهن في استعادة “تفاصيل وذكريات مؤلمة”.

وتبين أثناء المقابلات تعرض النساء الستة للتحرش أو محاولة الاستغلال الجنسي، كما مرت معظمهن بتفاصيل مرهقة ومشاكل تتعلق بتحصيل الميراث مع عائلة الزوج.    

ويأتي التحرش الجنسي من أبرز المشاكل التي تواجهها أرامل قتلى الجيش اليافعات، وعبرت إحداهن عن الظاهرة: “نحن قطعة لحم تهاجمنا الكلاب.”

بينما تساءلت أخرى متهكمة “لا ندري ما الذي تفعله كلمة زوجة شهيد، ولماذا تثير الغرائز؟”.

أمل بدر (39 عاماً)، أم لشابين، قضى زوجها في مواجهات مع المعارضة المسلحة في درعا عام 2012، وهي في عمر 30 عاماً، لتبدأ بمفردها مرحلة مريرة من الصراع مع الحياة، وزاد من أعباءها اعتمادها الكبير في السابق على زوجها في كل شيء حتى في علاقته مع الأولاد، وبعد مقتله وجدت نفسها الأم والآب في آن معاً.

واضطرت المرأة لتسجيل ولديها في مدرسة “أبناء الشهداء” وهي مدرسة داخلية، لأنها لا تستطيع أن تنفق عليهما كما تقول لنورث برس.

ولا تكاد “أمل” تسرد تفاصيل قصتها حتى تعود إلى الموضوع  الأكثر إيلاماً: “كل نساء الشهداء تعرضن للتحرش”.

وتقول: “كأن مصطلح زوجة شهيد يحرك غرائز الرجال، فعند إجراء أي طلب أو معاملة، أو أي تواصل مع الرجال ستتعرض لأحد أنواع التحرش، وستجد من يساومها على جسدها”.

وتعتقد أن هؤلاء الرجال “يستغلون الحاجة الجنسية لأرامل معظمهن فقدن أزواجهن وهن صغيرات في السن”.

في إحدى المرات قصدت “أمل”، محافظة دمشق لنقل الكشك الذي خصصته لها الحكومة لتحسين دخلها، من حي ركن الدين إلى حي المزة، وتقول: ” كانت نظرات الموظف تخترقني بوقاحة غير محمولة، وعندما لم أتجاوب معه عادت المعاملة بالرفض”.

وكغيرها من الزوجات تحتفظ ذاكرة ريتا أسعد، بالكثير من قصص التحرش الجنسي، وأكثر ما يؤلمها، هو كيف أصبح جميع الأقارب يتجنبونها، فالنسوة تخشى على أزواجهن من زيارة “زوجة الشهيد” أو أي علاقة معها، والأقارب يرون أنه من غير الطبيعي زيارة أرملة في بيتها.

تقول إنها تسمع مراراً تعليقات مؤذية من نوع “مو فارقة معها وفاة زوجها” إذا  ضحكت، “وكأن المطلوب مني أن أبقى متشحة بالسواد، ولا أضحك أبداً لكي يقتنع الناس أنني حزينة على فقدان زوجي ووالد أطفالي”.

وتنهي “ريتا” حديثها بالقول: “إذا لم تكن زوجة الشهيد قوية ستنهشها الذئاب والوحوش”.

لم تكن سماهر علي (40 عاماً)، تحتاج لأكثر من سؤال حتى فاضت بالحديث والدموع.

وعن حالات التحرش التي تعرضت لها تحدثت عن آخر قصة جرت معها عندما كانت في المدرسة التي تدرّس فيها بدمشق، حينما دخلت  مكتبها ووجدت زميلاً من المدرسة يجلس مكانها، وبدأ يتحدث معها بطريقة كلها إيحاءات وإيماءات جنسية أمام الحاضرين “وبكل وقاحة”.

وروت حادثة أخرى عن شاب يعيش في حيها طلب منها الزواج وتسجيل نصف ملكية منزلها باسمه، وهددها أنه في حال رفضت فسيقول إنه على علاقة معها.

تقول المرأة إنها اضطرت للجوء إلى عائلته لتخبرها عن الطريقة التي يساومها فيها الشاب، لكن “الحمد لله لقد تفهموا الأمر”.

صراع على الميراث

ثمة الكثير من المشاكل التي تقاسيها أولئك النسوة، ومنها مشاكل تتلخص في الصراع على الميراث وعلى تعويضات مالية مع عائلة الزوج، إلى جانب الضغوط الاقتصادية المرهقة والتي وجدن أنفسهن في لحظة فارقة وحيدات في مواجهتها.

من بين أولئك كانت أمل بدر، التي لم تكن تتمتع بعلاقة جيدة مع عائلة زوجها المقيمة في ريف حماة، كحال مثيلاتها، لأن معظم الذين قتلوا من الجيش الحكومي يتحدرون من أسر فقيرة، والمبالغ التي تخصصها الحكومة لعائلاتهم وبالرغم من قلتها تصبح سبباً رئيسياً للخلافات بين الورثة من زوجته وعائلته.

بعد مقتل زوجها حصلت “أمل” على مبلغ مليون ليرة سورية، بالإضافة إلى راتب تعويض بدل إجازة لمدة خمسة أشهر، إلى جانب مبلغ “تعويض خدمة”، وكان مجموع هذا المبلغ يزيد عن مليوني ليرة، تمكنت من خلاله شراء منزل في منطقة مخالفات في دمشق.

تقول المرأة إن عائلة زوجها أخذت منها حتى تكاليف العزاء، كما أن أخوة زوجها حاولوا أخذ سيارته، ولكن “القوانين حالت دون تمكينهم من ذلك، أو لعدم استجابة القائمين على الأمر من الجيش بذلك”.

وتقول أيضاً إنها لا تستطيع تحصيل حقوقها من الميراث لأنها لا تملك دفع تكاليف المحامي لتوكيله بتحصيل حقوقها، فمنزل زوجها في القرية يستخدمه أخوته، وممنوع عليها هي وولديها، كما أنها لا تعرف شيئاً عن الأراضي التي كان يملكها زوجها.

وفي قصة مشابهة، كانت “راما” في العشرين من عمرها عندما تزوجت شاباً كان قد تخرج للتو من الكلية الحربية بعد قصة حب دامت تسع سنوات، ولكن لم تقض الفتاة معه أكثر من عام حتى عاد محملاً من معركة في حماة.

ولحظة مقتل زوجها لم يكن قد مضى على حملها سوى أشهر قليلة، ولكن لم يكتب لهذا الحمل الاستمرار نتيجة حالتها النفسية المزرية.

لم ترغب عائلة زوجها ببقائها بينها، فقد انتقلت العائلة إلى المنزل الذي تسكنه “راما” والتي أسسته مع زوجها، فطلبوا منها المغادرة إلى بيت أهلها، إذ أن الزواج لم يمض عليه سوى عام والحمل أجهض، وابنهم رحل فما مبرر وجودها؟.

ومثلها مثل غيرها لريتا أسعد،  التي فقدت زوجها بمعركة في حمص تاركاً خلفة ثلاث بنات، وامرأة لم تبلغ  35 من عمرها، الكثير من المشاكل مع عائلة زوجها.

فهي تريد تخصيصها بالأراضي التي ورثها زوجها عن عائلته التي ترفض ذلك، وتتهم أرملته بنيتها بيع الأرض التي تضم مقبرة العائلة.

لكن “ريتا” تقول إن من حقها إدارة الأرض التي كان يملكها زوجها في ريف طرطوس بالشكل الذي تراه مناسباً لأطفالها.

وفي قصة سماهر، التي قتل زوجها في إدلب في يوم ولادة ابنتها الثالثة عام 2011، لكن لم تتأخر المشاكل العائلية كثيراً، ما دفعها للانتقال من حمص حيث منزلها إلى دمشق، بعدما طلب منها والد زوجها التنازل عن مستحقات “الشهيد” من المال والأراضي، وعندما رفضت ذلك “قاطعتني عائلة زوجي وامتنعت عن التواصل معي”.

تشدد “سماهر” على أنها تتحدث بلسان مئات آلاف الأرامل، وترى أن غالبيتهن بحاجة إلى دعم نفسي أكثر من الأطفال، خاصة بعد الظروف الاقتصادية التي باتت تسحق الجميع.

وتقول إنها خسرت صحتها وأسنانها بسبب سوء التغذية، وإنها لا تستطيع إصلاحهن لعدم امتلاكها المال، وإن أكثر ما يشعرها بالقهر هو عجزها عن تلبية احتياجات أولادها.

“مزايا” بعلاقات شخصية

ترى أمل بدر، أن الجميع “يستثمر في الشهداء وأسرهم”، وتقول إن حواجز الجيش خاصة تلك العائدة للفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد الأخ الشقيق للرئيس السوري بشار الأسد، تصادر الكثير من البضائع وتفرض الغرامات، بحجة منحها لأسر “الشهداء”، لكن الأسر لا ترى شيئاً منها.

وتقول أيضاً إن المنح والمزايا قد تصل إلى تخصيص بعض الأرامل بمنازل إذا كانت المرأة “بمواصفات نوعية”.

وينسحب هذا الموقف على كل مساعدة أخرى، بحسب أمل، “فالتكريم الذي كان شائعاً حيث تحصل فيه الزوجة المكرمة على مبلغ من المال، يخضع أيضاً للعلاقات الشخصية، فقد تجد زوجة تكرم في كل مناسبة تبعاً لعلاقاتها، بينما ثمة من لم تحصل على تكريم سوى مرة واحدة أو لم تكرم أبداً”.

وكذلك الحال مع السلال الغذائية التي تناقصت أعدادها كثيراً، فقبل عامين كانت معظم العائلات تحصل على سلة شهرياً.

أما الآن فقد لا تحصل على سلة كل أربعة أشهر، وثمة عائلات لم تحصل على سلة منذ عامين في حين هناك عائلات لم تحصل على أي شيء.

تؤكد “أمل” أن هناك تراجعاً كبيراً في كل الخدمات، فواقع مدارس “أبناء الشهداء” تراجع كثيراً خلال العامين الأخيرين، وخاصة بعد تبديل “المديرة التاريخية” لهذه المدارس “شهيرة فلوح” بإدارة عسكرية، ما تسبب بتراجع الخدمات وكذلك المعاملة مع الطلاب.

الحال ذاته مع تراجع “المزايا” التي كانوا يحصلون عليها مثل بطاقة الشرف التي يفترض أن يحصلوا عبرها على خدمات نوعية كدخول المشافي أو الشاليهات الخاصة بالضباط بسعر أقل.

لكن هذا لم يعد متوفراً الآن، وتقول “أمل” إنها حاولت استخدام بطاقة الشرف عند أحد الأفران في دمشق، فرماها بائع الخبز في وجهها، وهو يقول لها إنه لن يبيع لحاملي بطاقة الشرف إلا إذا تم تحديد مخصصات لهم من قبل الحكومة، خاصة أن الخبز بات عبر البطاقات الذكية.

وبحسب موظفين في “مكاتب الشهداء” فإن أكثر الطلبات التي تتقدم بها الأرامل لهذه تتعلق بتأمين مسكن، خاصة بعدما باتت التعويضات لا تكفي حتى لاستئجار منزل، وأيضاً هناك الكثير من الطلبات تتعلق بالحصول على الأكشاك كمصدر دخل يحسن الوضع الاقتصادي للأسر.

وتستنكر “سماهر” ما يشاع من أحاديث يروجها البعض عن الخدمات المقدمة “لذوي الشهداء”، وترى أن هذا الكلام بمعظمه للتسويق الإعلامي وتلميع صورة المسؤولين، “والدليل أن أي زوجة شهيد تطلب استثناءها بأي شيء أو معاملة يتكرر الجواب ذاته من معظم الجهات وكأنهم متفقون عليه: ثمة مئات آلاف الشهداء”.

وتعلق على ذلك بحسرة: “أشعر أن شهادة زوجي ليست سوى رقم في سجل”.

وقالت مصادر مطلعة على مسائل “مكاتب الشهداء” لنورث برس إن طلب  الحصول على الوظائف هو من أكثر الطلبات لزوجات وأسر “الشهداء”، خاصة أن الحصول على فرصة عمل حكومية هو طموح كل شاب وشابة خاصة في الساحل السوري، وذلك بسبب سوء الأحوال وضيق الأفق الاقتصادي.

وقد حصر القانون 7 لعام 2017 عقد العمل السنوي بالزوجة، أو من تختاره من أولادها، ويمنح القرار لأسرة الشهيد فرصة عمل ثانية عندما يكون هنالك “شهيد” آخر للأسرة.

وتؤكد هالة العلي (30 عاماً) لنورث برس أنها انتظرت الحصول على فرصة عمل مقابل شهادة أخيها لأكثر من 7 سنوات، وعندما حصلت كانت بشروط غير مناسبة لها، لأن فرصتها بالتدريس التي حصلت عليها باللغة الإنكليزية كانت خارج محافظتها.

ومؤخراً ومع الأعداد الكبيرة من قتلى الجنود الحكوميين الذين بلغ عددهم حتى آذر/مارس الفائت 63 ألفاً طبقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد أصبح حتى هذا المطلب غير متحقق.

وبالرغم من تكتم الجهات الرسمية على أعداد قتلى الجيش، لكن تشير إحصاءات حصلت عليها نورث برس من مصادر رسمية اشترطت عدم ذكر اسمها، إلى أن عدد قتلى مدينة مثل حمص يصل إلى 12 ألفاً من عسكريين وقوات رديفة وبينهم مدنيين.

في حين أن أسر القتلى من القوات الرديفة (مجموعات غير رسمية تقاتل إلى جانب الجيش)، لم تحصل بعد على حقوقها لأن ذويهم غير مصنفين ضمن قوائم “الشهداء” حتى الآن.

قضايا وتبادل للاتهامات

في محاولة لمعرفة عدد القضايا المتعلقة “بزوجات الشهداء” التي تراجع المحاكم، قال عبد الله الحسين، وهو اسم مستعار لقاض في  دمشق إن موضوع “صرف الأموال” هو من أهم المشاكل التي يبت فيها القضاء في قضايا الأرامل.

فعند وجود الجد على قيد الحياة يعد “ولياً جبرياً”، وأحياناً قد يتنازل للأم عن الوصاية، وأحياناً عند أخذ الجد للوصاية فإنه بعد أن يقبض الأموال لا ينفق على الأولاد.

وفي هذه الحالات تقدم الزوجة شكوى ضد الجد بسبب عدم انفاقه على الأولاد، وعندها يصبح الحل عن طريق رفع دعوى وعزله عن الوصاية لتصبح الزوجة وصية، وتقبض مستحقات أبنائها.

وقال القاضي إنه ليس هناك إحصاءات لعدد الدعاوى المرفوعة من قبل “زوجات الشهداء”، لأنها تصنف  بين الدعاوى العامة التي ترفع في المحكمة.

ولكنه أكد أن 15 إلى 20 بالمئة من الحالات التي تصل إلى المحكمة بشكاوى على الجد يتبين أنها صحيحة.

وتتشارك الأرامل في مشاكل تتمحور حول العلاقة مع عائلة الزوج، ومشاكل الميراث، خاصة أن قانون الأحوال الشخصية لا يمنح الأم الوصاية على أطفالها، بل يمنحها لأب الزوج إذا كان حياً أو لأخيه وهما أيضاً آمرا الصرف، ويحصلان على نسبة من التعويضات المخصصة للقتيل.

والمشاكل تصبح أكبر عندما تكون الأملاك غير مقسمة، وما زالت باسم أب الزوج، وعندها حتى المنزل الذي يعيشون فيه يمكن أن تخسره الزوجة إذا قرر أب الزوج ذلك.

وعن المشاكل مع أسرة الزوج اعتبرت محامية طلبت عدم نشر اسمها، أن الزوجة وأهلها يعتبرون “الشهيد” ملكاً لهم، وهذا سبب “الحروب” بين الأهل الذين يعدون أنفسهم الأولى بـ”الشهيد” وهم من ربوه، وبين زوجته وأهلها الذين يعدون أنفسهم الأولى ولو تزوجها لمدة شهر، أو حتى لو كانت مسجلة في المحكمة فقط، ولم يتم الزواج بينهما بعد.

وحصلت الكثير من المشاكل بين عائلة الزوج وعائلات الفتيات اللواتي كن مسجلات دون زواج وعند مقتل من كان سيصبح زوجاً، “طالبن بكل المستحقات بغير وجه حق” بحسب المحامية.

وتقول بيداء يونس (50 عاماً)، وهي موظفة في مؤسسة حكومية من منطقة سلمية بريف حماة، إنهم تركوا لزوجة أخيهم كل شيء، ومع ذلك ظلت في حالة قطيعة معهم ومنعت أولادها من التواصل معهم.

وللمحامية ليندا حسين (اسم مستعار)  رأي سلبي أيضاً في سياق حياة “زوجات الشهداء” رغم تعاطفها حيال فقدانهن السند في الحياة، لكنها ترى أن  القانون أعطاهن “سلطة وامتيازات لا يستحقنها”.

وتقول: “كان الأجدى لو أن هذه المنح والامتيازات حصل عليها الزوج العسكري عندما كان حياً يرزق، لكن هذا لم يحصل على أرض الواقع بل عاش العسكري الحرمان والقلة وعندما استشهد فاضت الخيرات على زوجته كالوظيفة، والتعويضات والمعونات”.

تضيف المحامية في حديث لنورث برس أن الشاب الذي “استشهد حُرم في حياته، وحصلت زوجته على وظيفة لا تؤهلها لها شهادتها، أي أنها أخذت مكاناً يجب أن يكون فيه غيرها”.

ويرى البعض أن الأرامل أحدثن فائضاً في كل دوائر الدولة، وأغلبهن لا يقمن بأي عمل، ولا يملكن الخبرة أو الشهادة التي تؤهلهن لشغل هذه الوظيفة أو تلك، في حين يتعاملن مع الوظيفة وكأنها مصدر للدخل فقط، ولا يحق لأحد أن يوجه لهن أية ملاحظة لأنهن “زوجات شهداء”.

“حاجات عاطفية” وزواج بالإكراه

تعتقد “سماهر” أن من حق كل سيدة أن تكون مكتفية من حيث حاجاتها الجسدية  والعاطفية، ولكن في مجتمعات “مشوهة ومتوحشة كهذه يجب على الأرامل العيش بطريقة تشبه من هم في القبور بلا حاجات ولا مشاعر، وإلا فالسهام والوحوش جاهزة للانقضاض عليهن”.

وتقول هند عبد الله (اسم مستعار) وهي متخصصة في مجال علم النفس الاجتماعي إن النقص في تلبية حاجات الزوجات العاطفية والجسدية يجعلهن في حالة استياء دائمة دون وعي بأسباب غضبهن في بعض الأحيان.

ويجري ذلك خاصة في ظل “مجتمعات تعاني من علاقات إنسانية مرتبكة ورغبات مكبوتة”، ما يجعل أفكار وأحاسيس الزوجات وخاصة الصغيرات في السن، تتنازع بين مشاعر الحاجة للعاطفة والجنس من جهة، والممنوع والمسموح والحلال والحرام من جهة ثانية، خاصة عندما يتم تجاهل هذه القضايا اجتماعياً، الأمر الذي يجعلهن في حالة نفور دائمة لا سيما من الحلقة المقربة من الأهل.

ومن الحوادث التي شاعت في منطقة مصياف بريف حماة قبل نحو عامين، مصرع “زوجة شهيد” ورجل كان بصحبتها واختلى بها تحت غطاء مخفي لعمود كهرباء متوسط الشدة، الأمر الذي أدى لصعقهما في المكان، ما تسبب بما وصفه البعض بالفضيحة المدوية.

و للقصص أوجه أخرى، بالرغم ما تعيشه أولئك الأرامل من معاناة يراه البعض من زاويا مختلفة، تقول خديجة عليان (49 عاماً) التي اكتشفت أن زوجها على علاقة بزوجة “شهيد” إنها كرهت كل نساء “الشهداء” بسبب تلك “الغريمة”، التي كانت صديقتها وجارتها.

وأضافت: “اكتشفت  أنها أقامت علاقة مع زوجي”.

وبدأت القصة حينما لم يلفت انتباه خديجة في البداية اهتمام زوجها بتقديم الخدمات  لهذه الجارة الأرملة، وكان يطلب من أولاده تقديم الخدمات التي تحتاجها.

ولكن في إحدى المرات فوجئت بصور تجمع زوجها مع تلك المرأة بوضعيات “غير عادية”، ليتبين لها  أنه متزوج منها “بعقد شيخ”، كما يسمى، ليبقى الأمر سرياً وتحافظ على البيت الذي تسكن فيه والمزايا التي حصلتها.

تصف خديجة جارتها السابقة وضرتها الحالية،  بـ”الغدارة”، وتتفهم خوف كل الزوجات على أزواجهن من أرامل الحرب، وتصفهن بـ”خطافات الرجال”.

ويكاد يغيب أي دور للجهات الرسمية أو الأهلية في إيجاد حلول لمشاكل الأرامل العاطفية والجسدية رغم أعدادهن الهائلة، باستثناء طرح لهيئة شؤون الأسرة قبل سنوات في المؤتمرات ركز على فكرة التشجيع على الزواج من الأرامل.

ولكن على أرض الواقع تخسر من تتزوج ثانية “المزايا” التي حصلت عليها حتى لو بقي أولادها معها، وهذا ما شجع على عقود زواج سرية في بعض الأحيان، لكي تضمن “زوجة الشهيد” استمرار حياتها مع أولادها والمحافظة على “المزايا” التي تحصل عليها مثل بطاقة الشرف، والاحتفاظ بالبيت العسكري بعد مقتل الزوج، أو الحفاظ على فرصة التثبيت في الوظيفة عندما يفتح باب للتثبيت، لأنه يطلب منها إحضار بيان عائلي.

تقول سوسن زكزك، وهي باحثة في قضايا حقوق النساء الإنسانية، إن الأبحاث التي أعدتها عن “العنف ضد النساء في سورية” تثبت أنه يتم أحياناً إرغام الكثير من الأرامل على الزواج من “أخ الشهيد”، لأن بعض العائلات تعتقد أن هذا الزواج يحافظ على الأولاد.

لكن في الغالب يتم الزواج من دون رضى المرأة، لأنها كانت تتعامل مع أخ  زوجها كأخيها، ولكن تحت ضغط العادات والتقاليد وتهديها بحرمانها من أطفالها، ترغم على القبول به.

وتقول “زكزك” إن البحث الذي أجرته في منطقة مصياف، كشف عن وجود نزاعات كبيرة بين زوجات وأهالي القتلى للحصول على الأولاد وعلى التعويض المادي.

وليس ثمة أمر أسهل من “تلفيق تهم من نوع أن الزوجة غير صالحة”، عند رغبتهم في إبعادها، وهو ما أكده أحد المخاتير في المنطقة من ارتفاع كبير في عدد الدعاوى بين الزوجات وعائلات أزواجهن السابقين، بحسب الباحثة.

ومع الغياب الرسمي للتعامل مع هذه المشاكل نشطت بعض الجهات “الإيرانية” في ملء الفراغ، وقالت إحدى الأرامل إنها تلقت عرضاً في السنوات الأولى للحرب مفاده تأمين مسكن لها ولأولادها في منطقة السيدة زينب وتزويجها، مقابل الالتزام بالشروط المطلوبة منها كارتداء الحجاب، وأشارت إلى أن العرض تم تقديمه لأخريات مثلها.

لكن مهما يكن من أمر فإن الحرب التي تطحن البلاد منذ أكثر من عشر سنوات وفرضت واقعاً مريراً على مئات الآلاف من النساء مثل لينا، رنيم، أمل، سماهر، راما، وريتا، وجعلتهن أمام خيارات “أحلاها مر” لا تبدو أنها ستنتهي قريباً في ظل استمرار عداد القتل بتسجيل حصاد الأرواح.

أنجز التحقيق بإشراف: حمزة همكي