اللامركزية أيضاً وأيضاً

فتحت الحملة العسكرية في درعا الباب مجدداً أمام الأصوات المنادية بالإدارة الذاتيّة، بحسب بيان منسوب لعشائر حوران دعت من خلاله إلى إبقاء المنطقة خارج سلطة النظام المباشرة والمركزيّة، وأن أبناء المنطقة (درعا) كانوا قد أداروا منطقتهم بشكل أمثل مما كان وسيكون حال ذهابها إلى عهدة النظام. غير أن المناداة بالإدارة الذاتية تستبطن عداءً من نوع آخر، غير ذلك الذي يبديه النظام، حيث أن أصواتاً معارضة ترى في اللامركزية دعوة إلى استنتساخ نموذج الإدارة الذاتية الموجود في شمال وشرق سوريا والذي حاربته تلك الجماعات المعارضة عطفاً على ولاءات تركية متصلة برفض الأنموذج اللامركزي المفسّر على أنّه مشروع كرديّ “إنفصاليّ”، وبذا تتقاطع رؤى النظام ومعارضين وتركيا وروسيا في رفض اللامركزية وشيطنتها واعتبارها مقدّمة للانفصال والمساس بالسيادة، رغم أن حديث هذه الأطراف الأربعة عن السيادة أضحى مثار سخرية عند معظم السوريين.

بدت الأصوات المنادية من درعا بالإدارة الذاتية محرِجة للغاية، وإن كانت أصواتاً خجولة، إذ أنها صدرت عمّن يفترض أنّهم عرب وسنّة ومن منطقة كانت مهداً للثورة؛ كما أن إطلاق مثل هذه الدعوات كفيل بقطع الطريق على القائلين بأن المطالبة باللامركزية مقتصر على أصوات كرديّة، أو أخرى طائفيّة، أو تيارات محلّية إنعزاليّة، وقد يفهم من هذا التنكّر لبيان العشائر وصدقيته ومن ثم عدم الوقوف على مضمونه، رغم أنه حمل في جوهره فكرة تحجيم حكم النظام شديد المركزيّة، بأنه ضرب من ضروب معاداة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، أو بمعنى أضيق: لو لم تكن الإدارة الذاتية أو اللامركزية باحتمالاتها الواسعة مطلباً كردياً، لكنّا رأينا طيفاً معارضاً أوسع ينظر إلى المطلب على أنّه باب من أبواب الحل في سوريا التي ضاقت بها الحلول العسكرية وتلك السياسية المستندة على قرارات مجلس الأمن واتفاقات سوتشي وأستانا، ذلك أن الجانب العملاتي لمسألة اللامركزية يتقدّم، بوصفه حلّاً، على الجوانب النظرية التي تفترضها الاتفاقات والقرارات الدولية غير القابلة للتطبيق على أرض الواقع بين أطراف غاصت في دماء بعضها البعض، وبات جمع تلك الأطراف في حيّز سياسيّ وإداريّ واحد، ضرباً من الخيال المحض.

سبق لمثقّفين سوريين أن طرحوا اللامركزية في شكل وثيقة مكتوبة، على أن تكون محصورة في مناطق إدلب وريف حلب الشمالي الخاضعتين لسلطة الميليشيات المسلّحة وجبهة النصرة، بل إنّ حماستهم للمشروع بلغت حدّ تسمية إدلب “عاصمة مؤقتة” على ما يحويه مثل هذا الطرح من شطط واعتباط، ولكن رغم أن عدداً غير قليل وقّع وشارك في كتابة ذلك المشروع إلّا أنه توقّف نهائياً لاعتبارات متصلة بانعدام وجود سلطة مركزية في تلك المنطقة، وحروب الفصائل وخلافاتها وعدم حماسة تركيا في دعم الفكرة وتطبيقها، فالغالب على الظنّ أن تركيا الرافضة، على غرار النظام، لفكرة اللامركزية ترى في تلك الأراضي التي عبرت عنها وثيقة المثقفين شيئين فقط وهما، أنّها أولاً تشكّل منطقة “بازار” سياسية قابلة للأخذ والعطاء مع الجانب الروسي وأن قوّة التدخل التركي مرتبطة بإبقاء تلك المناطق منكوبة لأغراض الدعاية الدولية، وثانياً: لأن بعضاً من تلك الأراضي لاسيما المتاخمة للحدود ينبغي أن تلحق بتركيا، وبالتالي فإنّ المطالبة باللامركزية وإقامة منطقة حكم ذاتي يعني تحقّق شيء من الاستقلال والسيادة وهو ما ترفضه أنقرة، هذا فضلاً عن أن إقرار تركيا بواقعية اللامركزية يقطع الطريق على محاججاتها التي تربط تأسيس الإدارات الذاتية بالانفصال.

وقريباً من درعا، ثمّة دعوة مشابهة في السويداء، ورغم التقليل من حظوظ نجاحها، والخشية من أن يتم اتهام دروز سوريا على أنّهم “انفصاليون” أسوةً بالتهمة الملحقة بالكرد، وما قد يستصحبه الأمر من انقسامٍ وطني وآخر داخليّ في المحافظة، فإن الموارد الضعيفة للمحافظة قياساً إلى شرق الفرات تصعّب من جدوى الطرح. إلّا أن احتمالات تنامي الرغبة في الإدارة الذاتية معقودة على فشل النظام المديد في تقديم الخدمات العامّة وبسط الأمن ومكافحة “داعش”، والوصول إلى حل سياسيّ ينهي الأزمة السورية، لكن الأهم في شأن المطالبة باللامركزية  يكمن في ظهور تنظيمات سياسية وأخرى مسلحة بدأت تفكّر بعيداً عن سياسة النأي بالنفس وانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في البلاد، وإن كانت هذه التنظيمات محدودة الأثر لجهة حضورها وتأثيرها فإن هذا لا يمنع من توقّع تطوّر هذه التنظيمات ورسوخها في الوجدان الشعبي لاحقاً.

قد تصلح اللامركزية جزءاً من خارطة طريق، مفترضة وغير مكتملة التصوّر، في المناطق التي تخشى عودة النظام وانتقامه، وقد تصلح تجارب اللامركزية كدليل عمل متّبع في عديد الدول التي احتكمت إليها لأنها تعزّز وحدتها الترابية وتساهم في تمثيل مواطنيها بشكل أكثر عدالة وأفضل توزيعاً للموارد وتحقيقاً للتنمية المتوازنة ومساهمتها في تدريب أبناء وبنات الإدارات الذاتية على تجربة الحكم الذاتيّ وتطبيق الحوكمة المثلى، وإذا كان لا بدّ من عدّ فضائل اللامركزية فلا ضير من القول بأن اللامركزية، في حالات كثيرة، تحمي من عسف المركز وتخفّض من صلاحياته التي تؤسس للديكتاتورية والطغيان.

لم يعد “التبشير” باللامركزية يتطلّب ذلك العناء الذي بذله الكرد في معرض تقديمهم لشكل حل قضيتهم، إذ إن سوريا بدأت تغصّ بالقضايا التي تستلزم التفتيش عن الحلول، وغدت الإدارة الذاتية واحدة من الحلول الافتراضية المعروضة للنقاش العام والقابلة للتحقيق وإن بشروط صعبة، كتوفّر الموارد المالية والقدرات الأمنية ودعم الحاضنة الشعبية. إلى ذلك لم تعد تهمة الانفصال ترعب الداعين إلى تحجيم سطوة المركز وغلوّ ممثليه وقسوة مندوبيه الأمنيين إلى المحافظات، ذلك أن الناس في نهاية المطاف ستبحث عن حلول جديدة خارج صندوق الحلول المطروحة، والذي غدا صندوقاً خاوياً.