يتحدث الكثيرون اليوم عن هوية قومية إسلامية, تماماً كما تحدث غيرهم من قبل بوضوح عن هوية قومية عربية وهوية قومية كردية وهوية قومية تركية وهوية قومية فارسية. ويدور في منطقة الشرق الأوسط صراع مضني بين كافة تلك القوميات. وبينما خاضت أوروبا في تاريخها صراعاتها الوجودية مع الكنيسة بقت حينها تلك الصراعات بمعزل عن صراعاتها القومية, أما في شرقنا النازف فتدور كل الصراعات في وقت واحد متضاربة فيما بينها بل ويضاف إليها صراعات جانبية بين كل فريق على حدى.
الغريب في الأمر هو استمرارية المشاريع السياسية لكافة عناصر الصراعات رغم انعدام المقومات الدولية والقانونية لتجسيدها ورغم عدم قبول القانون الدولي الذي لا يعترف إلا بالهوية السياسية السورية الحالية فيما يخص السوريين فحتى بوصفهم لاجئين هم بنظر العالم شاءوا أم أبوا فهم سوريون.
لواقعية أكثر لا بد أن نتساءل هل يمكننا الحديث عن هوية سياسية عربية اليوم؟ بعد مضي أكثر من قرن على قيام الثورة العربية الكبرى التي أسست لتيار قومي عربي حينها بدافع غربي تواجد كما يصفه لورانس العرب لمواجهة العثمانيين في المنطقة.
في مطلع هذا القرن وبعيداً عن نظرية المؤامرة يجب أن نقرّ بأن هناك أيادٍ كثيرة لعبت بتغيير نهج التطور لدى المجتمعات المحلية حيث كانت هناك وعود موثقة بإنشاء دولة عربية على أنقاض الامبراطورية العثمانية, لكنها لم ترى النور بل ولدت بواقعية أكثر دويلات عديدة منها سوريا وفلسطين والعراق وفيما بعد لبنان والأردن وكذلك وفي ذات السياق بعدما كان هناك وعد موثق أيضاً بقيام دولة كردية (كالوعد بدولة عربية احتراماً للمساواة), لم تولد الدولة الكردية وتراجع أصحاب القرار آنذاك عن وعودهم فلم تولد لا دولة عربية ولا دولة كردية, وبقت المنطقة تجتر صراعاتها غارقة في صراعات الهويات والتي ولّدت صراعات سياسية لم تحسم إلى يومنا هذا.
في ظل هذا الظلم الذي شعر به كافة المكونات في المنطقة لا بد من توضيح غياب القرار والإرادة لدى الجميع, فرغم العيش المشترك في ظل العثمانيين لم تستشار المكونات في قضية وجودها في هوية سياسية مشتركة تحت مسمى الدول التي تنتمي لها. لقد حصلت النقلة النوعية من هوية تركية, ثم لفرنسية أو بريطانية وبعدها إلى هوية جديدة أكثر محلية لم تكن موجودة من قبل. حصل هذا الذي سمي باستقلال وهو في الواقع ولادة دول, دون أي تمهيد اجتماعي أو سياسي لهذا.
اليوم بعد الحقبة الأولى من الولادة المتعسرة بات يمكننا القول إنه كان ممكن للنخب المحلية والقوى الدولية العمل على بناء هويات سياسية محلية جديدة لكل من دول المنطقة, قبل التطرق للهويات الثانية التي طغت في معظم تلك الدول وألغت الهويات المحلية وخرجت الهويات الثانوية كمشاريع أولوية وطغت كمشروع الهوية السياسية الإسلامية بقيادة جماعة الإخوان المسلمين في ثلاثينيات القرن الماضي الذي جاء بعد مشروع الهوية القومية العربية ومشروع الهوية القومية الكردية وغيرها من مشاريع.
في بلد كسوريا وفي كل دول الجوار ذات الأغلبية العربية، بقت أزمة الهوية الوطنية قائمة ولم يقبل أحد بالهوية السورية, في الواقع لم تتواجد نخب محلية وطنية سياسية لقيادة هذا المشروع الملح الذي لم يكن ممكناً تأسيس دولة دونه. فكيف نبني دول أبنائها لا يبحثون عن إعلاء هويتهم الوطنية المحلية في داخل وطنهم وخارجه؟.
لم يكتب لسوريا ولا للبنان ولا للعراق أن يحظوا بنخب وطنية ترفض المشاريع العابرة للحدود السياسية الوطنية, تلك الحدود المدونة في الأمم المتحدة والتي يعترف بها القانون الدولي ولا يعترف بغيرها.
هذا يدل على عدم قبول سكان الدول تلك بحدوها. الجميع ينتقد اتفاقية سايكس بيكو التي أسفرت عن نشوء الدول الحالية بمحاصصة فرنسية بريطانية. ولكن لا أحد يملك بديلاً واقعياً وعملياً عما يرفض. بالنهاية لقد قامت كل المشاريع السياسية المحلية عن سخط وغضب على القرار الفرنسي البريطاني، ورغم ضعف هيمنة تلك الدول فيما بعد وظهور قوى عظمى أخرى, إلا أن النخب المحلية بقت عالقة في مواقفها التاريخية تتصارع فيما بينها تحت رايات تتجاوز حدودها المواطنة أي بالمحصلة بقت عابثة بمصير الناس محلياً.
كل الأحزاب التي أنشئت في سوريا منذ نشوء الدولة السورية عام 1946 تشير في مشاريعها التأسيسية لرفضها الضمني لقيام الدولة السورية.
حتى بنود الدساتير السورية التي كتبت منذ عهد نشوء الدولة لليوم لا تكرس الهوية السياسية السورية بل تشير بوضوح لهويات أخرى كالهوية العربية والهوية الإسلامية.
الحزب القومي السوري الذي لم تجد الأقليات ملاذاً لها في غيره, رغم تكنيه باسم سوريا إلا أنه أول من يطمح لنسف حدودها السياسية الدولية بتوحيد سوريا مع لبنان ودول أخرى متجاوزاً أيضاً بهذا القانون الدولي وسيادة الدول وهو بالتالي كالقوميين العرب والقوميين الإسلاميين جميعهم لا طموحات للوطن لديهم إلا بنسف حدودهم مع الآخرين والتعدي على سيادة الآخرين. بالتالي القومية السورية التي نبحث عنها لم تولد في حدود سوريا في وقتها بل بقى مشروع خارج الوطن, لا يختلف عن غيره حين يعتبر الوطن في مكان جغرافي سياسي آخر.
أما الأحزاب التي تنتمي للتيار الشيوعي أو الماركسي فهي حين ولدت كان انتمائها أممي أي عالمي غير مقيد بدولة حتى, وكانت تلك الأحزاب تاريخياً تنتمي لمعسكر الاتحاد السوفيتي وتستمد رؤيتها من هناك, وحين سقط الاتحاد السوفيتي أو انشق البعض عنه. بقى هذا التيار يتخبط ويتقرب من التيارات القومية فمزجت الماركسية بالعروبة أو قوميات أخرى بالأمر وتغير المشروع الخارجي ولاحقاً اقترب البعض من التيارات الإخوانية.
بالمحصلة لا أحد يجرؤ على الخروج عن القطيع السائر ضد الحدود السورية وضد الوطن المحلي.
أهم تيارين تواجدا في سوريا كانوا التيار القومي العربي بقيادة البعث والناصريين وتيار الإخوان المسلمين كلاهما كما شرحنا لا يعترفان بحدود سوريا السياسية الحالية ولا بهوية سورية محلية جامعة.
ففكرة القومية العربية تلغي الهوية المحلية السورية لصالح ما يراه أكبر وأسمى سياسياً, والجميع يطمح لإنشاء دولة عربية كبرى عابرة للحدود معربة سكانها غير العرب أو قابلة باستقلالهم. وفي هذا الصدد عبد الناصر كان منسجماً مع ذاته في قوميته العربية وقبل بالمقابل لغيره ما يريد لنفسه وقبل باستقلال كردستان وبدعم القومية الكردية.
ومثل القوميين العرب من غير الممكن لحزب الإخوان المسلمين في سوريا أن يقبلوا بفكرة الوطن قبل الحزب أو الجماعة, فهم بهذا أقرب لفكرة الشيوعية الأممية ذات المشروع العالمي الذي لا يتوقف على سوريا التي لا يراها أحد بل ويعتبر الإخوان المسلمين في سوريا أنفسهم جزء من تنظيم عالمي وليسوا حزباً محلياً وطنياً يعمل لسوريا.
قد يطول الشرح عن تخبط العمل السياسي للنخب في سوريا لكننا في المحصلة نصل لذات النتيجة وهي أنه موضوعياً منذ ولادة سوريا عام 1946 لم ينشأ حزب ذو هاجس وطني سوري بحت على غرار الدول الأخرى و ليس هناك مبررات حقيقية لهذا الغياب سوى أن الدولة السورية أنشئت دون قرار وطني من أبنائها ودون وجود إرادة محلية.