شورش درويش
كشفت الإبادة الجماعية التي تعرّض لها إيزيديو العراق عمق هشاشة الاجتماع والسياسة العراقيين، بل كشفت على نحو أوسع هشاشة الدول الإقليمية وانعدام حساسيتها تجاه أقلياتها، وقابلية تلك الدول للتآكل وتصدير أشد أنواع الإرهاب بربرية ووحشية، كما في حالة بروز “داعش” من جوف تاريخ إسلاميّ متخيّل وخروجه من شقوق الدولتين المقسّمتين في العراق وسوريا، أمّا الذكرى السابعة للإبادة فتكشف بدورها عن انعدام التضامن “الوطني” مع المأساة الإيزيدية المتواصلة، وعن ما يمكن أن يوصف باستحالة تضميد جراح الإيزيديين الغائرة، ولعل الدليل الأنصع على استمرار جرائم الإبادة تقدّمه لنا عفرين حيث يتعرّض إيزيديوها لإبادة أخف وطأة من تلك التي ارتكبتها “داعش” في العراق، وبفارق أن الميليشيات المسلّحة في عفرين تجيد استعارة الصيغة النازية في التعامل مع الإيزيديين وهي صيغة “الليل والضباب” والتي تعني إنكار وإخفاء الأدلّة على ارتكاب الجرائم، بالتالي التعديل على شكل الإبادة “الداعشية”، إذ نجحت تلك الميليشيات في التضييق على إيزيديي عفرين وتدمير إرثهم الثقافيّ ومزاراتهم الدينية ومصادرة ممتلكاتهم والأشد من ذلك هو دفع بعضهم لتبديل دينهم.
شكّل الهجوم على سنجار، وما استتبعه من قتل وذبح وسبيّ للنساء واستعبادهنّ جنسياً، المكافأة المجزيّة التي قدّمها التنظيم لأعضائه، فيما تحوّلت هذه الغنيمة الآدمية إلى مادّة دعائية ساهمت في توسيع التنظيم وتقويته والترويج لـ”بطولاته”، ولكن الفظاعة بلغت منتهاها عندما تحدّثت ناجيات إيزيديات عن أن من عمل كأدلّاء لدى عناصر “داعش” وشارك معهم في جريمة السبي و”شراء” السبيّات كانوا جيرانهم من غير الإيزيديين، وكان كثيرهم قد قضى في جوار الإيزيديين عشرات السنين، وهو إن كشف عن هشاشة النسيج الاجتماعي من ناحية، فإنه يكشف أيضاً عن استحالة تقبّل الإيزيديين لفكرة الجار الذي يتحيّن الفرص لإيقاع الأذى بأبناء وبنات مجتمعهم، ولعل هذا الخوف الذي ولّده التنظيم في نفوس الأقليّة الإيزيدية ساهم في إفراغ مناطق الإيزيديين التقليدية وتفضيلهم البقاء في الشتات على العودة، رغم جهود إعادة الإعمار لتلك المناطق التي اضطلعت بها الأمم المتحدة. ورغم خروج “داعش” من سنجار واندحاره، فإن المعنى الواقعي الذي يشبه المجاز يكمن في صعوبة إخراج وحشية وقسوة التنظيم من نفوس الناجيات والناجين، ولعل هذا “الاحتلال” المديد للنفس هو المكمّل لذاك الاحتلال الفيزيائي الذي وقع في آب/أغسطس 2014.
في العام السابع للإبادة الجماعية، وإلى جوار 5000 ضحيّة، ما تزال مصائر 2800 إيزيدي مجهولة، والاتهامات تطال الحكومة العراقية التي لم تولِ الاهتمام اللازم لعملية الكشف عن مصائر المفقودين، وفي السجل أيضاً مقابر جماعية لم تكتشف، وأطفال مجهولو نسب يرفض المجتمع الإيزيديّ، شديد التدين، تقبّلهم نظراً لكونهم ولدوا لأب “داعشيّ” وأم إيزيديّة وهو أحد الأمور التي تجعل نتائج جريمة الإبادة مستمرة؛ وفي الوقت عينه لم تبرأ النسوة الإيزيديات من الألم النفسيّ الذي تسبب به الاستعباد الجنسيّ وفقدان الأهل، وهو ما دفع غير واحدة منهنّ إلى الانتحار.
اعتراف الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي باعتبار ما حدث في سنجار إبادة جماعية، كان قد سبقه اعترافات أخرى أعلنتها دول غربيّة، إذ فضلاً عن العراق نعثر في القائمة، المتواضعة نسبياً، دولاً مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وأرمينيا وهولندا والبرتغال وسواها من دول لم تبلغ العشرة، غير أن اللافت هو تجاهل الدول العربية قاطبة والإقليمية، تركيا وإيران، للإبادة وعدم الاعتراف بها، الأمر الذي يضاعف مخاوف الإيزيديين ويدفعهم إلى مزيد من العزلة بما هم خارجون من رحم إبادات ومجازر تاريخية متواصلة تجاوزت السبعين مجزرة وإبادة والتي تكنّى في السرديّة الإيزيدية التاريخية بـ”الفرمان”.
يقتضي استذكار الإبادة الجماعية تعقّب الأسباب التي أفضت إليها، ولعلّ “تخارج” الإثنيات الدينية والقومية وفشل سياسات التعايش وانعدام برامج الاندماج الاجتماعي مهّدت الطريق أمام حصول الإبادة. كما أنّ فشل المنظومة الدفاعية العراقية برمتها من حماية الجماعات الأهلية لا سيّما الأقليات الدينية، يترك الباب موارباً لارتكاب إبادات لاحقة. غير أن معالجة تداعيات الإبادة الإيزيدية ما تزال دون المستوى المطلوب، حيث يفترض أن يفسح المجال أمام أبناء الديانة الإيزيدية من تشكيل كيان محلّي يمكن أن يتحوّل إلى فاتيكان عراقي يتمتع بصلاحيات تسمح للإيزيديين بتشكيل قوّة دفاع ذاتي دائمة خارج نطاق منظومة “الحشد الشعبي” لتؤمن قسطاً من الحماية لعشرات آلاف الإيزيديين وتلقى الدعم والتنسيق من الدولة العراقية، ويضاف إلى ذلك أن العودة الآمنة من الشتات ومخيّمات النزوح مرهونة بالقضاء المبرم على تنظيم “داعش” الذي يبدو أنّه ما يزال يتحيّن الفرصة للظهور في الأراضي الرخوة، لا سيّما في العراق، ويزيد من هذا الاحتمال تراجع الحضور الأميركي في المنطقة.
في واقع الأمر أفضت سياسات الدول الإقليمية إلى إخراج العديد من الأقليات الدينية والقومية من الجغرافيا إلى الشتات والنزوح، وأحياناً إخراجهم من الواقع إلى التاريخ، ذلك أن القسوة والعنصرية مثلّت الوجه الأوضح للأنظمة المتعاقبة ونموذج إدارتها للتنوّع، غير أن الأكثر بشاعة هو أن تكمل تنظيمات ظلاميّة مهمة الأنظمة العنصرية والفاشية وبنحو أكثر سفوراً، وإذا كان اختيار جماعة مسالمة كالإيزيديين ليكونوا “عبرة” لجماعات أخرى ومختبراً للإرهاب التاريخيّ “الديني” المحدّث، فإن سياسات الإمحاء والإبادة في المنطقة والتي تقودها دول رسميّة في هذه الأثناء يجعل من حدثٍ كاستذكار الإبادة الإيزيدية ضرورة وجدانية وسياسيّة، لئلّا تعوّل تلك الأنظمة، فالتنظيمات الإرهابية، على انعدام التضامن بين الشعوب والجماعات الأهلية والأفراد.