عندما يحدد الآخر سياساتك

في العشر الثالث من شهر أيلول\سبتمبر2000، ذهبت إلى حمص لأخذ موافقة رياض الترك على توقيعي على بيان الـ99. بعد أخذ الموافقة، جرى نقاش حول الوضع السياسي، وكان من جملته سؤالي له حول موقفه من بيان المطارنة الموارنة الصادر للتو والداعي إلى خروج القوات السورية من لبنان. أجابني رياض الترك بالتالي: “أنا أؤيد البيان، وكل من يقف ضد السلطة السورية يجب أن نقف معه مهما كان ماضيه ومهما كانت دوافعه السياسية”. فاجأني جوابه فقلت له التالي: “أنت الأمين العام لحزبنا، والأمين العام لرياض الترك هو السلطة السورية، لأنها تقودك عبر التعاكس معها، فكل ما يعاكسها أنت تتبعه أو تؤيده”. فاجأه جوابي، واحتار أمامه.

أنا أجزم بأن كل ما فعله رياض الترك من تأييده لغزو العراق واحتلاله الذي رفضته السلطة السورية في عام 2003، وتأسيسه لـ”إعلان دمشق” عام 2005 على وقع الصدام الأميركي- السوري، وتحالفه مع الإسلاميين الذي بدأ مع “إعلان دمشق”، يأتي في إطار منطق التعاكس، وليس في إطار المعارضة، من حيث أن المعارضة تعني أن لك برنامجاً بديلاً لا يتحدد بالآخر وأفعاله، بل بما تريد لبلدك أنت كجماعة سياسية. فرياض الترك أيد غزو العراق من منطلق أن السلطة السورية عارضته مما خلق شرخاً بين دمشق وواشنطن، وبنى “إعلان دمشق” على أساس استغلال الخلاف الأميركي مع السلطة السورية، كما أن تحالفه مع الإسلاميين قد أتى من منطلق أنهم القوة الأقوى في جسم المعارضة السورية، وأنهم القوة التي هي الأكثر تأهيلاً لمقارعة  السلطة السورية. في فترة ما بعد درعا 18آذار\مارس2011 كان تحالفه مع الإسلاميين في “المجلس الوطني” ثم “الائتلاف” عام 2012 مبنياً على أساس أن الإسلاميين، كما أظهرت تجربتي تونس ومصر، قد أصبحوا معتمدين من واشنطن كبديل للسلطات القائمة في البلدان المنفجرة عام 2011، وأن سوريا ستكون ثالث تونس ومصر.

لا تقتصر حالة رياض الترك على المعارضة السورية التي أصبحت بغالبيتها الكبيرة تبني سياساتها على التعاكس مع النظام، حيث يبني المعارضون السياسات على أساس من هو مع السلطة السورية ومن هو ضدها، وليس على أساس برنامج سياسي ينبني على رؤية سياسية للوضع القائم وعلى أساس ممكنات تحقيق الأهداف السياسية وفق الممكنات التي يحملها ذلك الوضع القائم. بل تمتد حالة رياض الترك إلى الموالين للسلطة السورية حيث الكثيرون منهم يبنوا السياسات على أساس الخوف الذي يبلغ حد الهلع الرهابي من الإسلاميين، حيث يأتي تأييدهم للسلطة من خلال هذا الخوف الذي يدفعهم للارتماء في حضن السلطة كرد فعل تعاكسي، والكثيرون منهم يقولون بأنهم غير راضين عن سياسات السلطة، ولكن السلطة هي حسب قولهم “أهون الشرين”.

تشمل هذه الحالة للموالين الكثير من المعارضين السوريين، الذين دخلوا السجون في الثمانينيات، ولكنهم وجدوا أنفسهم منذ درعا 2011 بسبب تلك الحالة الرهابية من الإسلاميين في صف الموالاة للسلطة أوفي حالة “المعارضة الموالية” التي لا تختلف بشيء مع السلطة حول أسباب الأزمة السورية ولا حول الموقف من القوى المتصارعة في الأزمة ولا حول الحلول للأزمة. سوريا الآن تعيش من خلال حالتي الموالين والمعارضين حالة انقسام حدي هي أقرب لحالة انقسام بين ضفتين لا جسر بينهما.

هنا، يبدو أن تلك الحالة السورية تمتد إلى بلدان عربية عدة، فالخوف من الإسلاميين في جزائر عام 1992 قد دفع الكثير من العلمانيين واليساريين إلى تأييد الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال خالد نزار لمنع إكمال الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية التي كانت المؤشرات تقول بأن الإسلاميين سيفوزون بها.

في عام 2013 أيد ناصريون وشيوعيون وليبراليون انقلاب الجنرال عبدالفتاح السيسي على رئيس منتخب ديمقراطياً ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكل هؤلاء أيدوا الإجراءات اللاديمقراطية اللاحقة للحظة الانقلاب، قبل أن يقوم الأخير بالتخلص من مؤيديه لحظة الانقلاب، وبعضهم وضعهم في السجن مثل أحمد ماهر زعيم (جماعة 6إبريل) أو أجبرهم على الذهاب للمنفى مثل الدكتور محمد البرادعي، ثم ينفرد بالسلطة.

يبدو الآن أن تونس تقدم مثالاً أرقى من سوريا ومصر، حيث لم يؤيد إجراءات الرئيس قيس سعيِد بيوم 25 تموز\يوليو2021 الليبراليون (“حركة قلب تونس” وهي القوة السياسية الثانية في البرلمان بعد إسلاميي حركة النهضة) ولااليساريون (حزب العمال بزعامة حمة الهمامي)، وكلاهما اعتبرا إجراءات الرئيس انقلاباً، ولم تقدهما الحساسية والتعارضات والخلافات مع الإسلاميين إلى تأييد إجراءات انقلابية، مدعومة من الجيش وأجهزة الأمن ومن بقايا حزب بن علي وواشنطن وباريس ومحمد بن زايد، جعلت السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بأيدي الرئيس، وهو مالم تقله المادة 80 من الدستور التونسي التي تقول: “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي لحظتها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس البرلمان وإعلام رئيس المحكمة الدستورية… يعتبر البرلمان في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة، وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس النواب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”.

الرئيس التونسي في إجراءاته خالف المادة 80 من الدستور من خلال تجميد عمل البرلمان ومن خلال إقالة الحكومة. الأرجح أنه يتجه إلى أن يكون السيسي التونسي.

كانت تونس أرقى التجارب الخمسة في مجتمعات عربية عاشت حالة انفجار مجتمعي في عام 2011. يبدو أنها ستكون كذلك أمام خطط خارجية وداخلية لقتل التجربة الديموقراطية التونسية، والتي هي مثل كل تجربة وليدة مليئة بالشوائب والأخطاء، ولكن الديموقراطية لاتحل مشاكلها من خلال الديكتاتورية ولا من خلال “مستبد عادل” حتى ولوكان أستاذاً سابقاً لمادة القانون الدستوري.