عام على تفجير بيروت

اليوم العالمي للكفر بالسلاح، والمقصود بالضبط اليوم المشؤوم لتفجير نترات الأمونيوم في ميناء بيروت قبل عام كامل في الرابع من آب والذي كان بمثابة قنبلة نووية تنفجر على شاطئ بيروت وتحصد مئات القتلى وآلاف الجرحى ومليارات الخسائر.

وأرجو أن لا ينتظر القارئ الكريم من هذه المقالة تحديد المسؤول عن تفجير بيروت وتسمية المجرمين المتورطين فيه، فهذا الأمر تتخصص به هيئات ومؤسسات قضائية وإعلامية وإدارية ودبلوماسية ودولية، تعمل سبعة على أربعة وعشرين، وهي مستمرة في تحقيقاتها ومطالباتها العاجزة باستجواب رؤساء ووزراء ونواب ودول وسفارات، ولا تزال هذه الشحنة التي دمرت بيروت مدونة ضد مجهول ولم يعرف إلى اليوم اسم صاحب هذا الكرم الحاتمي الذي أنعم به على بيروت، مع أن السفينة والربان والمخزن والمواد كلها مدونة بالكامل في سجلات المينا، فقط خانة الآمر بالموت فارغة ولا تزال فارغة ويبدو أنها ستبقى كذلك، وسيستمر في الخانة الغامضة اسم إبليس نفسه بصورة “إس” في هذه المعادلة، وبالتأكيد لن يضيف مقالي لهذه المعادلة المعقدة شيئاً.

والتحقيقات تثبت الآن أن كمية الأمونيوم التي تم تفجيرها لا تشكل إلا عشرين بالمائة من المخزون الذي جاءت به السفينة، وأن ثمانين بالمائة من هذه الحمولة قد سرقت وتسربت خلال خمس سنوات من عمر الشحنة، ولولا أن أنعم الله على بيروت بهؤلاء اللصوص (الأفاضل) لكانت الكارثة أكبر بخمسة أضعاف مما وقع في ذلك اليوم المشؤوم.

لبنان هذا البلد المنكوب للغاية، والذي يشهد انهياراً في سوقه الاقتصادية والتنموية والتعليمية والزراعية والصناعية يشهد ازدهاراً في سوق السلاح، شوارعه موديل الستينات من القرن الماضي، وساحاته لا تزال كما تركها العثمانيون أيام المتصرفيات والقائمقائميات، وأمجاده واقفة عند الفينيقيين وقرطاج، ولكن سلاحه دائماً موديل العام الجديد، ولا زال بشحمه واصلاً من المصنع المنتج إلى المستهلك الغبي جاهزاً للاستعمال مشفوعاً بأكثر قصائد الشعر تهديداً لإسرائيل وأميركا، ولكن فعاليته تكون فقط في ساحات الحرب السورية واليمنية والعراقية.

حين أشاهد الإخوة الأعداء في أفغانستان بعد أربعين عاماً متواصلة من الحرب المجنونة، وقد صارت ثيابهم رقاعاً وأسمالاً، وبيوتهم كرفانات وخياماً، ومدارسهم قاعات بؤس وقهر، ولكن سلاحهم لا يزال بشحمه ولحمه نضّاً جديداً فعالاً، لم تجرِّبه الدول المنتجة بعد، ويتولى المجاهدون الأفغان تجريب هذه الأسلحة، بعضهم ببعض، ويقدمون لمنتجيها أدق الأرقام عن فاعليتها وقوتها وجدواها، في سبق علمي وتكنولوجي لا يحسدون عليه، وهو السبق الوحيد الذي تجيده الأمم المعترة المغلوبة.

تقدم الأمم المتحدة نحو مائة وسبعين تقريراً دولياً في كل عام، ولا تحتاج لطويل عناء لترى العلم السوري الحزين في أسفل القوائم دوماً، في الرفاهية والتعليم وجودة الحياة والصحة وقوة الدخل، إلا في تقارير التسلح المشؤوم فسوريا في عافية وخير، والسلاح الذي يصل إليها غزير ومتطور وفعال ومنافس، ولا يشكو من شيء، وقد ثبتت فعاليته وقوته بشكل قاطع في لحوم الشعب المنكوب وبيوته ومدارسه ومشافيه، وبات هذا السلاح صاروخاً أو برميلاً أو نترات أمونيوم مجرباً وفعالاً ومصوراً على الأراضي السورية في ساحات الوطن المنكوب، ويا لها من إضافة بائسة للمعرفة ستسجل في تاريخ الحروب دوماً باسم المدن السورية المنكوبة من الزبداني إلى درعا إلى داريا إلى القصير إلى معرة النعمان، وقد صار لكل قرية سورية منكوبة اسم في تاريخ الحروب والسلاح يكرس الخزي والجنون والعار.

في سوريا هبطت معدلات الحياة تحت خط الفقر إلى مستوى مريع، ويسمع العالم صراخ الناس على غياب الخبز والكهرباء والوقود والمواصلات، والحلفاء يتفرجون على معاناة هذا الشعب وجوعه وقهره ولكنهم لا يقدمون له شيئاً إلا السلاح، وليس لديهم شيء آخر يقدمونه إلى مأساتهم الأليمة.

لقد مارس الجميع إثم السلاح، وخلده الإنسان في سجل مقدساته وصار على علم دول المقاومة بندقية وسيفاً، وترفعه الفضائيات العربية مع نشيدها الوطني شامخاً ملفوفاً بالكبرياء، فيبدو في الضفة الأولى مقدساً ونبيلاً وفي الضفة الأخرى متوحشاً وأثيماً، نمدحه حين يكون في أيدينا كآلهة مقدسة وتمائم سحرية تجلب السلام والحظ والسعادة ونلعنه في يد الآخرين كشيطان رجيم يقود جمعاً من الأبالسة في سبيل الشر والموت.

الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة وراجمات الصواريخ تعيش عصرها الذهبي، ولا يزال العرب أكبر المستوردين في العالم في هذا السوق المظلم، ونترات الأمونيوم تتربع في موانئ البلاد العربية بين شحنات القمح والأرز والدواء والكتب، ولديها سجل تراثي مقدس يزخرف الموت ويزينه، ولا يتورع ان يستعين بالنص من القرآن والشعر والأدب والدستور على قداسة السلاح وضرورته وحتميته، وما فيه من مرضاة الله وقدر الله وإرادة الشعب، ويقدم السلاح على أنه حامي الدستور وساتر الأمة ومنصة الشهداء.

بعيداً عن النصوص المقدسة والدساتير المكرسة في قدسية السلاح ونبله وشرفه فما هو وجه الخير الذي جاء به السلاح لبلادنا المنكوبة؟ وإلى أي مكان نقلنا السلاح المعبود في الحرية والكرامة والرفاهية؟ ولا تزال أنظمتنا تهز نصالها في نحور أبنائها، وتدمر مقدرات الوطن وطاقاته وأبناءه بوصفها أوكاراً للجاسوسية والخيانة والتآمر، فيما يبقى المتآمر المزعوم في مأمنه في إسرائيل لا تصيبه منا إلا الشتائم والمآتم والتمائم.

أعلم أن هذا المقال سيوصف بالطوباوية الحالمة، وأن كاتبه منفصل على الواقع، فالعالم لا يكون بغير سلاح ولا يحلو بدون معارك، والذين يجبنون عن الحرب محكوم عليهم أن يكونوا في الدول الضعيفة البائسة مثل سويسرا واليابان وإيسلندا وهونغ كونغ وأضرابها من الدول (التعيسة) التي لا نصيب لها من الكرامة والعزة والشموخ والكبرياء الذي نتلحف فيه في دول الصمود والتصدي.

ما أكتبه هو محض إثارة وتحفيز للبحث في نفق الموت المظلم عن مكان آخر للإنسان يمارس فيه إدارة القوة في مواجهة الجريمة، بعيداً عن أطماع السياسة وبرامج تجار الحروب.

متى يدرك الإنسان أن السلاح منذ كان حجراً في يد قابيل إلى أن صار قنبلة نووية أميركية وصاروخاً بالستياً عابراً للقارات ثم عاد سيفاً في يد داعش لم يتغير عن كونه مشروع موت لا يقدم للحياة شيئاً، غير تعميق الآلام وتوسيع الحطام.

هل سيصبح يوم الرابع من آب اليوم العالمي للكفر بالسلاح، والإيمان بالإنسان، وهل ستدرك الشعوب المغلوبة أنها حين تعيش على مافيا السلاح فهي تعيش أيضاً على مافيا الموت، وأن النار لا تطفئ النار بل الماء يطفيها، وأن العنف ليس قدر العالم بل الحكمة والعدل والقانون.