تونس بين العسكر والإخوان.. تعقيدات التغيير نحو الديمقراطية

بعد مصر ها هي تونس تتراجع عن ديمقراطيتها بعد أن كانت تعتبر في نظر البعض الثورة الوحيدة التي نجحت في إنجاز تحول ديمقراطي, بعدها مارس الشعب التونسي حقه الانتخابي لمرات ونجح في تحقيق تغيير سلمي لرئيسه، فاستبدل الشعب زين العابدين بالمرزوقي والمرزوقي بالسبسي وبعد هذا استبدل الشعب االسبسي بقيس سعيد.

ونزل التونسيون للشارع مرتين وفي المرتين استجابت المؤسسة العسكرية لمطالب الشارع ولم ترق الدماء, هذا بالإضافة للمناخ العام الذي أنتجته ثورة الربيع العربي في تونس من حالة حريات عامة تحسد عليها رغم الفوضى التي أغرقت البلاد.

ويرى البعض أن الصراع في دول العالم الثالث هو بين الشارع المفقر والمؤسسة العسكرية التي ترمز في تلك الدول للمنظومة الفسادية حيث الضباط هم فقط من يتحكم بمفاصل الدولة مباشرةً أو من وراء الستار, لاغين بهذا أي مفهوم ممكن لفصل السلطات المؤسس للديمقراطية, وهنا يمكننا ببساطة إيجاد تقاطعات ونقاط مشتركة بين دول الديكتاتوريات في أفريقيا والمشرق, فكل هذه الدول تعاني من تفشي فساد مؤسساتي مصدره الجيش الذي يعرقل التطور الاقتصادي والتغيير.

الديكتاتوريات في تلك الدول لم تعتمد إلا على العسكر لكي تحكم البلاد بالقوة عبر انقلابات ومن القواسم المشتركة لكل تلك الدول هو تحول ضباط الدولة لرجال أعمال يسيطرون بالقوة على القطاع الاقتصادي الخاص والعام, معتبرين الدولة مزرعة شخصية.

ثورات الربيع العربي التي كان وقودها الفقراء فشلت وتحولت لنيران حارقة كما شاهدنا في اليمن وليبيا وسوريا, هي فشلت لأنها واجهت الرفض القاطع للتغيير الديمقراطي من قبل الطبقة العسكرية المسلحة.

وأما العبرة والاستنتاج الذي خرج به الجميع في سوريا ودول كثيرة هو أنه يمكننا إنجاز التحول الديمقراطي في حال وافق واقتنع الضباط بضرورة هذا التغيير, فتلك الطبقة العسكرية التي تحمل السلاح بشرعية دولية هي من يقرر من وراء الستار متى وكيف وأين تتغير الأمور أو لا تتغير.

حين نتذكر الثورة المصرية والتونسية، نستحضر صور الضباط الذين نزلوا إلى الشارع مع الشعب فارضين على الرؤساء مبارك وبن علي الرحيل، ولولا هذا القرار العسكري الوطني لتحول المشهد لصراع دموي كما حدث في سوريا وليبيا اللتين لم يقبل الضباط فيهما التنازل عن أي من مميزاتهم وفضلوا إراقة الدماء.

لكن رغم وقوف الجيش المصري لجانب الشعب بحكمة، لم تتحول مصر فجأة لدولة ديمقراطية بين ليلة وضحاها, وعاد الجيش للحكم بعد فشل أول تجربة ديمقراطية، قيل حينها إنه لم يكن ممكناً أن تبنى ديمقراطية على الطريقة الغربية بهذه السرعة. فالديمقراطية تحتاج لشروط ومناخ عام وثقافة غير متوفرة في مصر بعد لا بالممارسات ولا بالعقليات العامة.

من جهة أخرى، كانت الشعارات الدينية التي ملأت الشوارع العربية بشكل واضح تشير لمطلب آخر غير الديمقراطية، وهو مطلب لدى جزء لا يستهان به من الشعوب، وهذا المطلب هو دولة حكم إسلامي. وقيل حينها لماذا يعطى شعب ما لم يطالب به لماذا يعطى الديمقراطية إن كان لا يريدها؟

الذين فازوا بأول انتخابات ديمقراطية تمت بحرية في مصر وفي تونس كانوا الإسلاميين والقراءة العامة للموقف بدت وكأن الصراع هو بين طرفين الأول هم العسكر والثاني هم الإسلاميون.

إن كان الإسلاميون بعيدين عن الحداثة المنشودة في طرحهم وأدائهم وتغييبهم للمرأة ولحقوق الإنسان وفق المفهوم الحديث, فالعسكر الذين عرفناهم في دول الديكتاتوريات هم أيضاً بعيدون كل البعد عن الحداثة وحقوق الإنسان، بل إنهم متهمون بتكريس منظومة الفساد في أغلب الدول التي حكموها ودمروها.

ومن الضروري أن نذكر هنا أن الغنوشي وجماعة الإخوان المسلمين عموماً دافعوا عن دكتاتور دموي دمر بلده وتعدى خارجياً على دولة جارة هي الكويت منتهكاً الشرعية الدولية, أي أن الإخوان المسلمين ليسوا بديمقراطيين بل هم لا يرفضون حكماً عسكرياً ديكتاتورياً طالما يخدمهم ويمولهم .

فهل هناك مخرج ممكن من مأزق حكم العسكر والحكم الإسلامي؟ أم أن كليهما متلازمان ويبرر كل منهما وجوده بوجود الآخر.

بالمطلق نحن لسنا بحاجة لحزب يحكم باسم الله ويعلن أنه فوق الدستور وفوق الدولة فهذا خطر حقيقي على الدولة، لكن كيف تقنع الإسلامي أن الدستور الوطني هو ضرورة لحماية المواطن وأنه مجرد صناعة بشرية محلية تعطي الحق لغير المسلمين بالمواطنة بالشروط ذاتها؟ كيف تقنعه بالمواطنة ببساطة وبالديمقراطية التعددية عندما يصرخ قائلاً أن دستوره هو القرآن؟

وإن كان الدين مسألة شخصية فالأمن ليس كذلك ولا القانون، لذا نحن دون شك نحتاج وفي كل الدول لجيش وطني ولسلاح شرعي تمتلكه الدولة حصرياً.

وأما عن تجارب الدول التي نهضت واستطاعت إنجاز التغيير الديمقراطي ومكافحة الفساد الذي نصبو إليه, فنلاحظ أنها لكي تصل لمرحلة فصل السلطات والانتقال من مراحل التخلف الديكتاتوري العسكري التي نعيشها نحو مرحلة دولة دستورية, اعتمدت على الجيش الوطني أي أن “الحامي الحرامي” الذي نعرفه اليوم في سوريا تحول في لحظة ما لحامٍ وطني شريف, لشريك في المشروع الوطني. وتحول الجيش من جيش يقتل المعارضين إلى ضامن للدستور ولواقٍ للديمقراطية.. هذا ما حصل في تركيا وفي دول أخرى من العالم النامي.

مكافحة الفساد واحترام القوانين وانتهاج مبدأ الشفافية وفرضه على الجميع دون اعتبارات، لا يمكن أن يتم إلا في منظومة دولة ديمقراطية تكرس حرية التعبير والحريات الاساسية.

لكن في الدول المشرذمة التي نعرفها اليوم والواقعة رهينة للتجاذبات الخارجية يبدو هذا أمراً صعباً للغاية، ولا طرف سياسي يمكنه أن يقود عملية التغيير, فلا أحد يمكنه أن يكون القاضي والمتهم في الوقت ذاته، وكل الأطراف السياسية متهمة في بلاد أصبحت السياسة فيها مهنة لكل من لا مهنة له.

وفي ظروف الشرذمة هذه نحتاج لجيش وطني لا سياسي, يضمن عملية التحول ولربما ما يحدث في تونس يعكس لنا صورة نوعية عن تعقيدات عملية التغيير نحو الديمقراطية.

لا لن تستقر الأمور بسهولة ولن تأتي الديمقراطية ببساطة وسلاسة كحمامة بيضاء بين ليلة وضحاها، فالمسألة ليست فقط إرادة شعوب، إنها مسالة وعي عام ومسؤولية عامة.

لكن ورغم اختلاف المشكلات التي تعاني منها الدول العربية، هناك قاسم مشترك هام جداً يبشر بغد أفضل وهو يتمثل بظهور لحالة وعي عامة جديدة تتمثل بحضور جديد لمنظمات المجتمع المدني, فهذه الحالة الجديدة العابرة للتوجهات السياسية باتت تعبر عن رأي عام بشكل واضح ومؤثر. وهي ظهرت رغم القمع عبر شبكات التواصل وبالتزامن مع الثورات الجديدة وظهرت حتى في الدول التي لم تشهد ربيعاً عربياَ. لكن هل يعني هذا الحضور الجديد لرأي عام آخر أن الديمقراطيات قادمة ؟ لا شيء أكيد ؟