قراءة في خطاب “القسم”

كان من المتوقع أن يرسم الرئيس في خطاب القسم برنامجاً لعمل الحكومة خلال السنوات القادمة، غير أن روحية الخطاب وكثير من ديباجته الإنشائية جاءت تفصيلاً في قوة التحدي التي عبر عنها في كلمة إعلان فوزه في الانتخابات. يتوجه الرئيس في خطابه إلى الشعب، كل الشعب ليسارع إلى تخصيصه بذلك القسم منه الذي “حمى وطنه بدمه”، وصان “الأمانة”، وحفظ “العهد”، وأثبت للعالم أن قدر سوريا، أن “تمنح التاريخ ملاحم يقرأ صفحاتها كل من يريد أن يتزود بدروس الشرف والعزة والكرامة والحرية الحقيقية..”.

للأسف الشعب الذي تخاطبه يا سيادة الرئيس، إن كنت حقاً تخاطبه، نصفه صار لاجئاً أو مهاجراً، وأكثر من النصف الباقي لم تعد “الحرية”، في الوقت الراهن، من أولوياته بل لقمة العيش. أي دروس في “الشرف والعزة والكرامة والحرية” نعلمها للعالم وأعداد كبيرة من السوريين لم تترك باباً لم تلجأ إليه ليأويها. كيف تجتمع الكرامة والحرية مع الفقر المدقع الذي يعيشه السوريون اليوم.

وانسجاماً مع روح التحدي الذي تميز بها الخطاب، فقد أغلق الرئيس بكل وضوح طريق الحل السياسي عبر اللجنة الدستورية، إذ عد معركة “الدستور والوطن” واحدة، لكن بأولوية “الدستور” فهي “عنوان الوطن” بحسب رأيه، وهي غير قابلة “للنقاش والمساومات”. الوطن يا سيادة الرئيس مقسم واقعياً إلى مناطق نفوذ، ولا يمكن توحيده إلا عبر الحل السياسي الذي تشكل المراجعة الدستورية المدخل إليه، وهذا ما يعلمه كل سوري.

الشعب السوري يا سيادة الرئيس “متنوع” كما قلت، وهذا التنوع يشكل غناً حقيقياً لسوريا، لكن ليس في ظل الاستبداد، بل في ظل الحرية والديمقراطية وحكم القانون، وخلق بيئة ملائمة وصحية لتفتح هويات مختلف مكوناته. القمع المنفلت الذي مارسه النظام خلال أكثر من خمسة عقود جعل كثيراً من السوريين يكفرون بسوريتهم، وهاهم مع تفجر الأزمة التي من أسبابها الرئيسة استبداد النظام، يلجؤون إلى هوياتهم الصغرى، مما تسبب في تمزيق النسيج الوطني. 

خص الرئيس بخطابه السورين الذين أضاعوا “المسلمات” الوطنية وميزهم إلى فئات، منهم من “يبرر الفوضى والتخريب للمنشآت العامة..” والأخطر من ذلك أنه يقدم “المبرر للإرهابيين لكي يستمروا بعنفهم”، ومنهم من قبل باللغة التقسيمية والألفاظ اللاأخلاقية لاعتقاده أنها ممارسة ديمقراطية وحرية رأي، ومن وقف بلا موقف معتقداً أنها الحكمة، ومن اتخذ مواقف ملتبسة معتقداً أنها الحنكة، ومن مارس الانبطاح معتقداً أنه الانفتاح لكنهم جميعاً خونة وعملاء. المواطن السوري البسيط يتساءل كيف صار أكثر من نصف الشعب السوري “خائنا” ونظام البعث منذ نحو خمسة عقود وهو يحكم البلد؟!!. أغلب الذين انتفضوا على النظام هم أجيال البعث يا سيادة الرئيس.

صدقت عندما قلت “استقرار المجتمع” من “أولى المسلمات” وكل من يمس “أمنه وأمانه ومصالحه مرفوض بشكل مطلق”. لكن لنكن واقعيين يا سيادة الرئيس المجتمع السوري بعد عشر سنوات من الصراع المسلح تمزق شرّ تمزق وصارت هوياته الصغرى هي السائدة، عداك عن الملايين الذين غادروا أماكن سكناهم مهاجرين إلى الخارج أو نازحين في الداخل. الذي يوحد السوريين اليوم هو الجوع والفقر والرغبة في ترك البلد.

رغم كل الحدة في نقد الرئيس لمعارضيه فقد ترك لهم باباً للعودة إلى “حضن الوطن” فهو “الملجأ والحاضن” وإن هذا الباب لن “يغلق” وإن الرجوع عن “الخطأ فضيلة”. بغض النظر عن توصيف الرئيس لمعارضيه فهو يعلم كما يعلم معظم السوريين أن عودتهم لن تتم إلا في سياق حل سياسي يؤدي إلى تغيير جذري وشامل في نظام الاستبداد الحاكم.

انتقل الرئيس للحديث عن “التداعيات الاقتصادية والمعيشية للحرب” فبدأ بالتركيز على ضرورة تثبيت “سعر الصرف” للعملة الوطنية، وأن “القدرات” موجودة لكنها بحاجة لمن “يراها ويعرف كيف يستخدمها”. بالنسبة لي كأستاذ في الاقتصاد ما أعرفه أن سعر الصرف ارتفع من نحو 45 ليرة للدولار في عام 2010 إلى أكثر من 3000 ليرة سورية، وإذ يراوح حول قيمته الأخيرة فبفضل تحويلات السوريين في الخارج وليس بفضل قوة الاقتصاد في الداخل. لقد تشوهت الروابط الاقتصادية بين مختلف المناطق السورية، وغادر قسم مهم من رأس المال الوطني البلد، وتراجعت التجارة الخارجية إلى نحو 90 في المئة، وارتفعت البطالة لتشمل أكثر من 50 بالمئة ممن هم في سن العمل، وفي النتيجة ازدادت نسبة الفقراء في البلد لتشكل نحو 85 بالمئة من عدد السكان.

في ختام هذه القراءة في بعض ما جاء في خطاب القسم للرئيس في بداية عهدته الرابعة اعترف بأنني بذلت جهداً كبيراُ في قراته، وتساءلت متفكراً إلى من يتوجه الرئيس بخطابه؟. إنه محاضرة في التنظير للسياسة العامة خلت من أية مقاربة حقيقية ممكنة للخروج من الأزمة ولتحسين واقع حياة السوريين. وإذا كان الخطاب موجها إلى الخارج (كما أظن) في هذه الحالة عسى أن يبطن وراء تشدده الظاهر، مرونة كافية تساعد على تيسير الحل السياسي بما ينقذ البلد من مخاطر التقسيم، ويعيد توحيد الشعب السوري من جديد.