فتاوى الدم شركاء في الجريمة

مع تكبيرات العيد فجع العراق بجريمة سوداء في سوق للفقراء في مدينة الصدر حيث وقع تفجير هائل أدى إلى مقتل نحو أربعين وإصابة مائة آخرين.

وكان واضحاً أن القاتل قصد عن عمد وتصميم قتل أكبر عدد ممكن من الأبرياء تحديداً في صباح يوم الأضحى، انطلاقاً من فتاوى التكفير الصريح التي يعلنها الـ”دواعش” ضد هذا المذهب، وهي فتاوى واضحة وصريحة تنسب إلى مشاهير السلفية الجهادية، وللأسف فإن بعضهم يقوم على رأس منظمات إسلامية قاعلة.

وخلال ساعات أعلن “داعش” مسؤوليته الكاملة عن هذا (الجهاد) وأن مجاهداً يدعى أبو حمزة هو من ارتكب هذا (الجهاد الفظيع) وبالطبع فإن هذا “الشهيد العظيم” وفقاً لأدبيات “داعش” وخطابه المعروف قد فجر نفسه وأثخن في المشركين، في سبيل نصرة الصحابة والدفاع عن أمهات المؤمنين!.

لا أريد أن نتبادل المظلوميات، ففي تراث كل فريق وفي واقعه أيضاً ملايين الأمثلة على الكيد والمكر المتبادل، وهناك مقاتل في الطرفين، ولا يأتونك بمثل في القتل والجنون إلا جاءهم برهان ما يطلبون، فالمقاتل متكافئة، والمجرمون على الطرفين، وقد سال في هذا العقد وحده من الدم الطائفي ما يعادل قروناً من الحروب القذرة.

ومع ذلك فإنني سأناقش هذا الحدث الأليم وأنا لا أجهل أنه حلقة من سلسلة متتابعة من الجرائم ارتكبها أشرار حاقدون على الضفتين، وليس لي ولع ولا أرب بشرح هذه الأيام السوداء من المقاتل، ولكنني سأقف على حدث اليوم والفتاوى المؤسسة لهذا اللون من الإجرام.

من المؤكد أن سب الصحابة عمل لئيم، وفيه نكران لجميل الرسول الكريم واتهام له بسوء التربية، ولا شك أن سب أمهات المؤمنين هو سلوك في غاية الخسة والنذالة، ولا يصدر إلا عن الأوغاد، ولكن هل يبرر ذلك الفتوى بالتكفير وقتل الناس؟.

وواضح أنني أقصد فتاوى التكفير التي يطلقها مشايخ غاضبون ضد الشيعة ويستبيحون دماءهم لأن عدداً منهم يسب الصحابة.

وللأسف فإن هذه الفتاوى لم تصدر من عنديات “داعش”، ولم تولد في معسكراتها، بل هي منشورة منذ قرون ويتبادلها الطرفان على الصحائف الصفراء والبيضاء، فتذهب فتاوى الفريق السني إلى تكفير الشيعة دفاعاً عن الصحابة وتذهب فتاوى الشيعة إلى تكفير السنة دفاعاً عن أهل البيت ومطلبهم في الخلافة.

وليس شيء أشد غباء من المضي في جدل عقيم كهذا، فهذه أحداث سياسية وقعت قبل ألف وأربعمائة عام، وقد مضى أصحابها إلى ربهم، وقد انتهى العاقلون من الاصطفاف في هذا الجنون منذ تلك الأيام الأليمة فيما لا يزال الأشرار يوقدون عليها الحطب والبنزين كل يوم.

ولكن مع ذلك لا بد من بعض التفاصيل حتى ندرك حجم مأساتنا وأن كثيراً منا يندفعون جنوناً وراء فتاوى التكفير ولا يدركون أنهم يقدمون وقوداً لئيماً لهذا اللون من التفجير والجنون من حيث يعلمون أو لا يعلمون.

الخلاف بين الصحابة أو اتهام بعضهم أو الطعن فيهم أمر عادي تماماً وقد حصل حتى في عهد النبوة ومن غير المنطقي أن يتسبب خلاف بين الصحابة وقع قبل ألف وأربعمائة عام بهدر دماء الناس اليوم.

الصحابة اقتتلوا، والمبشرون بالجنة كانوا على الصفين المتحاربين في يوم الجمل وصفين، ومن الطبيعي أن يحمل بعضهم غاية السوء والكيد بالآخر، فقد رفعوا السيوف والرماح في الاقتتال وسقطت أشلاؤهم في معارك محزنة مؤلمة، وكتب بعضهم الشعر في مصارع بعض، ولكن ذلك كان فصلاً من التاريخ ولى بما فيه وليس من العقل ولا المنطق أن نعيد هذا التاريخ اليوم لنستأنف الاصطفاف ونقاتل على الغايات الملعونة إياها بعد هذه القرون الطويلة.

وبعد انتهاء حرب الجمل الأليمة ومصرع الصحابة المبشرين فيها طلحة والزبير، حضر إلى مجلس علي، إسحق بن طلحة بن عبيد الله، وكان طلحة رأس المحاربين لعلي يوم الجمل، قام علي من مجلسه وعانق إسحق بن طلحة وقال: أهلاً بأخي وابن أخي، أرجو أن أكون مع أبيك ممن قال الله فيهم: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين!

هز أحد أصحاب علي رأسه وقال بمكر: الله أعدل من هذا!!

على الفور التفت علي إلى هذا المتزلف الفارغ وأمر بإخراجه من مجلسه ونفاه من الكوفة، بوصفه داعية فتنة وصاحب وقود جديدة للحرب!

أشعر بالقرف حين أستمع إلى مجرم هارب يرتدي عمامة سوداء ويكرس حياته لشتم زوجات الرسول الكريم، ولكنني لا أفهم لماذا يجب أن ننظر إلى ثلث المسلمين بأنهم يفعلون هذا اللون من الشر؟ وما ذنب النساء والأطفال الذين ينتمون إلى هذا المذهب، ولماذا يجب أن يكونوا كافرين، وكيف تساهلنا في فتاوى الدم حتى صار الحكم بالتكفير كشربة الماء، وبالتالي فالتكفير مقدمة التفجير وهو في النهاية فتوى قتل بالمجان.

في تاريخ النبوة وبعيداً عن السنة والشيعة هناك صحابي جليل يمكننا أن نتعلم منه الكثير، وهو سعد بن عبادة، وهو زعيم الخزرج وكان أشهر أجواد العرب، وكان مستشار رسول الله، وحامل رايته يوم الفتح، وقل ما شئت عن محامده ومحاسنه، وكان رسول الله إذا خطب امرأة يقول: قولوا لها إن معي جفنة سعد تدور معي حيثما درت! ومع انتشار خبر موت رسول الله اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وبايعوه خليفة للرسول الكريم، قبل أن يحضر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ويطلبوا من الأنصار فسخ البيعة والعودة إلى رجل من قريش، وقد تم ذلك بالفعل وبايع معظم الأنصار أبا بكر في هذا اليوم.

اختار هذا الصحابي الجليل موقفاً صارماً ضد أبي بكر وعمر، وقد عارضهما بشدة في الخلافة، ورفض مبايعة أبي بكر، وكان يشتد في خصامه، ثم رفض بيعة عمر بن الخطاب وكان يستعلن برفض خلافته واتهامه بالاستيلاء على الخلافة من أهلها الشرعيين من الأنصار الذين آووا ونصروا، وحين اشتد الخصام أقسم سعد بن عبادة أن لا يظله مع عمر بن الخطاب سقف وأن لا يجمعه به لقاء، وبالفعل فقد أعد راحلته ورحل من المدينة كلها ونزل بالشام في بلدة المليحة، يخطب ويكتب في كل مكان عن حقه المسلوب وعن تآمر أبي بكر وعمر عليه!.

القصة واضحة لرجل وقف جهاراً نهاراً ضد الشيخين الجليلين، وتكلم عنهما بأشد ما يقول السياسي المعارض ضد خصومه… ولكن.. كيف تعامل المسلمون في عصر الإسلام الذهبي مع هذا الصحابي؟

يعرف كل مسلم أن سعد بن عبادة يحظى بغاية الإجلال بين المسلمين ولا يمكن أن يذكره مسلم بسوء، ولم نسمع بفقيه ولا مفسر ولا محدث أفتى بوجوب بغضه أو كراهيته أو تفجير منزله أو مدرسته أو ذريته انتقاماً وثأراً لأصحاب رسول الله.

في بلدة المليحة قرب دمشق قبر عامر لهذا الصحابي الجليل يزوره الناس وقد بني فيه مدرسة كبيرة ودار للخير الإنساني وباتت المنطقة كلها تسمى مليحة سعد، على الرغم من رأي السوء الذي رواه كل مفسري الإسلام عن هذا الرجل في حق الشيخين.

أليس من الممكن أن يسعنا هذا المنطق الإيجابي الذي وسع الصحابة في الخلاف والخصام، وأن نكف ألسنتنا عن فتاوى التكفير، وأن نعلم أن الإنسان هو روح الله وسره، وأن الدفاع عن الإنسانية أولى من الدفاع عن التراث، وأن الماضي رحل بما فيه ولم يعد لنا فيه إلا العبرة والموعظة، وفق منطق القرآن: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.