نبش المقابر استكمالاً للتغيير الديمغرافي

أطلق الكاتب المصري فرج فودة على القرار الأوّل الذي استصدره أول خلفاء  العبّاسيين، أبو العباس السفّاح، عند توليه الحكم، القرار رقم (1) والقاضي بنبش قبور خلفاء بني أميّة وجلدهم وصلبهم وحرق جثثهم، حينذاك بلغت الوحشية مستوى إخراج جثّة هشام بن عبدالملك وهي الوحيدة التي ربّما سلمت من التحلل إذ لم تبلَ سوى أرنبة أنفه، فضربت بالسياط وصلبت وأحرقت وذرتها الريح، لكن هذا الفعل الوحشيّ والمتمادي في فكرة اجتثاث الخصوم، وبالتالي اقتلاعهم من جوف الأرض، رغم تحريمه في المذاهب الإسلامية الأربعة. إلّا أن ما حصل كان في العام 750 للميلاد، فهل يمكن أن تستعاد صورة مشابهة لهذه الوحشيّة والفظاعة في غير مكان وزمان، تحديداً في أيامنا هذه؟

 الحقيقة أنّ نسخة من هذه البشاعة تكرّرت في عفرين مراراً، حين دشّنت القوّات التركية المحتلّة رفقة مليشيا الجيش الوطني أوّل أعمالهما الانتقامية في عفرين عبر تدمير مزارات الشهداء، كما في حالتي تجريف مزار الشهيد رفيق بناحية شران ومزار الشهيد سيدو بناحية جنديرس، لكن الواقعة الأقرب حصلت الأسبوع الفائت والذي تجاوزت فيه البربرية حدود تدمير المزارات إلى مرحلة نبش المقابر وكشف رفات الضحايا، والأكثر فظاعة كانت عملية تبرير الواقعة حين سارعت تركيا إلى وصف المقبرة المنبوشة الموجودة في داخل مدينة عفرين بأنّها “مقبرة جماعية”.

ولأن المقبرة ضمّت رفات 71 مقاتلة ومقاتلاً ومدنياً كانوا قد ارتقوا في الأيام القليلة السابقة لاحتلال مدينة عفرين، ودفنوا في المقبرة المعدّة على عجل بالقرب من مشفى آفرين خلف مبنى المجلس المحلي، فإن النبش هنا جاء لأجل غايتين،  تشويه سمعة القوّات الكردية عبر ربطها بملف منفّر إنسانياً ووطنياً، وهو ملف المقابر الجماعية، فيما الغاية الأساسيّة تتمحور حول تدمير ومسح كل ما يمت للذاكرة الشعبية بصلة عبر إمحاء أثر أحداث جرت في الماضي القريب، ما يجعل الأمر وثيق الصلة بالتغيير الديمغرافي المتواصل.

شهادات المدنيين سبقت ردّ قوات سوريا الديمقراطية الرسمي على المزاعم التركية، والأدلة العينية التي قدموها قطعت الشك باليقين، وأفسدت على تركيا ومناصريها السوريين إطالة مدّة الاتهام، لكن الاتهامات التركية والتي يروّج لها سوريون باتت أقرب إلى الحدث الدوري كما في الاتهام الذي سحب من التداول حين تعرّض مشفى عفرين لقصف مدفعي في الثاني عشر من حزيران/يونيو 2021، والذي نفت قسد ضلوعها في الحادثة، وعلى العكس بادرت إلى المطالبة بالكشف عن الجناة، فيما تغاضت تركيا مجدداً عن متابعة الحدث بالحماسة التي بدأت بها الاتهام، ربّما لأنها عرفت القصّة الحقيقية لمجزرة المشفى، ولكن مصلحتها تقتضي الإبقاء على قسد ضمن دائرة الاتهام من خلال عدم الإشارة إلى الفاعل الحقيقي.

استتبع التغيير الديمغرافيّ والهندسة الاجتماعية في عفرين عمليات ممنهجة ودقيقة من مسح للذاكرة عبر تغيير ملامح الطبيعة نفسها وتحطيم وسرقة الأوابد الأثرية وتغيير أسماء الشوارع والأحياء والمحلّات والمدارس ونسف للأضرحة والمزارات الدينية، ولعل مسألة تدمير مزارات الشهداء والمقابر ومن ثم الانتقال إلى مرحلة نبش المقابر تصب في ذات الساقية، وهي بذا تمثّل أعلى مراحل مسح الذاكرة، فالنازحون، وحتى المتبقين في عفرين، تشغلهم مسألة العودة أو البقاء لأجل أن يكونوا بالقرب ممن فقدوهم، ويمثّل هذا الجانب الوجدانيّ أهم عوامل التشبّث بالمكان ويمثّل تحطيم المقابر ونبشها الذي يدخل في باب التمثيل بالجثامين قطعاً للآصرة الروحية التي تربط العفرينيّ بأرضه، وبالتالي لا يمكن أن يوصف تدمير المقابر ونبش القبور بأنه محض اعتباط وفعل عفوي أو تفتيش عن مقابر جماعية مزعومة.

ينطوي تصرّف تركيا التوسّعي في الجوار، وفي الشمال السوريّ على وجه التحديد، على مقدارٍ كافٍ من الصيغة الإيديولوجية لألمانيا النازية المتمثّلة بـ”مساحة العيش” (ليبنس راوم) والتي كانت تعني منح ألمانيا الحق في التوسّع في أوربا الشرقيّة لأن الألمان شعب بلا مساحة وبالتالي يؤمّن التوسّع تطويراً لاقتصاد الاكتفاء الذاتي، وإن تحقق ذلك على أساس إبادة السلافيين شرقاً، إلّا أن التمايز بين محاججتي تركيا الحالية وألمانيا النازية أن مساحة العيش مطلوبة تركياً لتحقيق الأمن القومي وإن استلزمت تهجيراً للسكان المحليين وإحلال آخرين مكانهم وابتداع شعب جديد في المنطقة المحتلة يحوز قاطنوها الجدد على الإقامات والأوراق الثبوتية التركية ويرفعون أعلامها ويتلقون التعليم باللغة التركية، يأتي ذلك في ضوء تجريب سياسات داروينية اجتماعية، عهدتها تركيا في داخلها سابقاً، وتقوم على أساس تقسيم البشر على أساس إثني وتفضيل الأقرب إلى تركيا على من هو دون ذلك.

ثمّة خيط يربط بين كل ما يجري في عفرين بسياسة التغيير الديمغرافي حتى وإن كان على صعيد تدمير المقابر ونبشها، وعليه فإن الغالب على الظن هو أن تركيا لن تكشف، رغم إمكانياتها الكبيرة، عن هوية الجثامين المنتشلة؛ فالغاية تتحقّق عبر المبادرة إلى الاتهام قبل أن يشار إليها كطرف متورّط في عمليات تغيير ديمغرافية والتي باتت تقتضي الاحتكام إلى ممارسات بشعة مثل نبش المقابر، واقتلاع الموتى واستنطاقهم والأنكى من ذلك هو تزوير هويتهم.