الاتجاه الأميركي الانسحابي من المنطقة

خلال ستة أشهر من تسلم الرئيس الأميركي جو بايدن، منصبه جرى سحب القوات المقاتلة الأميركية من العراق والإبقاء على قوات للتدريب، وجرى سحب حاملة الطائرات أيزنهاور من منطقة الشرق الأوسط، وجرى تفكيك ثلاث بطاريات باتريوت في السعودية وخمسة في الكويت والأردن والعراق بما فيهم طاقمهم التشغيلي الذي يعد بالآلاف، وجرى منذ أول أيار\مايو2021 البدء بسحب القوات الأميركية من أفغانستان.

القوات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط هي بحدود الـ50 ألف جندي في منتصف عام 2021، بينما كانت في عام 2019 تصل إلى 90 ألفاً. هذا الاتجاه الانسحابي الأميركي بدأ مع باراك أوباما، ولكنه اضطر للنكوص عنه مع بروز قوة (داعش)في عام 2014، ثم تابعه دونالد ترامب ولكن اضطر مع هجمات الحوثيين على منشآت شركة أرامكو النفطية السعودية في أيلول\سبتمبر 2019 للنكوص عنه أيضاً. من الواضح الآن أن جو بايدن يمضي في هذا الطريق بسرعة كبيرة.

هنا، يلفت النظر أنه رغم الخلافات الأيديولوجية الكبيرة بين أوباما وبايدن وبين  ترامب فإنهم ثلاثتهم يشتركون في هذا الاتجاه الانسحابي من منطقة الشرق الأوسط، التي يرون أن أهمية نفطها قد خفت كثيراً مع اكتشاف النفط الصخري، وثلاثتهم يرون بأن التركيز الأميركي يجب أن يكون على مجابهة الخطر الصيني، لذلك يشترك الثلاثة في نزعة الانزياح الأميركي للتركيز على الشرق الآسيوي عند الشاطئ الشرقي للمحيط الهادئ (الباسفيك) الذي أصبح في القرن الواحد والعشرين وبين شاطئيه، الغربي الأميركي والشرق آسيوي، هو مركز الاقتصاد العالمي، بعد أن كان في الشاطئ الأوروبي للمحيط الأطلسي منذ عام 1588 مع انتصار الإنكليز على الإسبان في معركة الأرمادا وبعد 1945 في الشاطئ الأميركي للأطلسي، فيما فقد البحر الأبيض المتوسط مركزيته للاقتصاد العالمي مع اكتشاف القارة الأميركية في عام 1492 وفقدان الشرق الأوسط مكانته كطريق للهند مع اكتشاف فاسكو دي غاما لرأس الرجاء الصالح في عام 1497 ووصوله عبره للهند.

في هذا المجال، يختلف أوباما- بايدن مع ترامب في أن ترتيب الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط يتطلب اتفاقاً مع إيران، فيما يرى ترامب أن إضعاف إيران، أو جعلها العراق 2، هو أساسي من أجل تلك الترتيبات، وتشارك إسرائيل والسعودية والإمارات ذلك الاتجاه عند ترامب، فيما قاومت الدول الثلاث اتفاق 2015 مع الإيرانيين الذي عقده أوباما، وهي تتوجس كثيراً من متابعة هذا الخط عند بايدن لأوباما، فيما كان ما يشبه احتفالية العرس عند الدول الثلاث لما انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران في الثامن من أيار\مايو 2018، وعلى الأرجح أن اتجاه الإمارات لعلاقات وثيقة مع إسرائيل هي لتحصين الذات من اتفاق أميركي محتمل مع إيران، فيما يبدو أن السعودية لم تعد تتشارك مع هذا الاتجاه الإماراتي، حيث يبدو أن الرياض في عام 2021 تبحث عن اتفاق موازي مع طهران بموازاة ذلك الاتفاق المحتمل لبايدن مع الإيرانيين، وما يهم السعوديين في هذا المجال هو اليمن من دون أي ملف آخر بما فيه الملف السوري الذي على ما يبدو لم تعد الرياض تعتبره بذي أهمية منذ عام 2017، وإذا كانت تبدي اهتماماً جزئياً به الآن فهو من أجل المقايضة مع الإيرانيين بخصوص اليمن.

ما يلفت النظر هنا، أن هذا الاتجاه الانسحابي الأميركي من المنطقة لا يشمل القوات الأميركية الموجودة في سوريا، وقد رأينا كيف أفشلت وزارة الدفاع الأميركية- البنتاغون قرارات ترامب للانسحاب العسكري من سوريا في كانون الأول\ديسمبر 2018، وتشرين الأول\أوكتوبر 2019. في هذا المجال، فإن الضغط الاقتصادي الأميركي على السلطة السورية الذي وصل ذروته مع قانون قيصر البادئ تنفيذه في السابع عشر من حزيران\يونيو 2020، هو بالتوازي ضغط على الروس الذين يشكلون أهم حليف للسلطة السورية، وهو عملياً يهدف بالأساس للضغط على الكرملين عبر استخدام الساحة  السورية من أجل تنازلات روسية للأميركان في مواضيع ضم أوكرانية لحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي وفي دفع الروس نحو الابتعاد عن الصين وفي دفعهم للضغط على الإيرانيين في موضوع مفاوضات الملف النووي الإيراني. في هذا الصدد، تستخدم الولايات المتحدة وجودها العسكري في شرق الفرات كنقطة ضغط صراعي على  الروس وحليفتهم السلطة السورية، وهي توجد في منطقة هي عصب الاقتصاد السوري حيث النفط والغاز والقمح والقطن، وعملياً فإن جو بايدن في سوريا هو أقوى من فلاديمير بوتين برغم أن القوات الأميركية بالعدد هي أقل من القوات الروسية، ولكن الموقع الاستراتيجي الاقتصادي الذي توجد فيه يجعل واشنطن أقوى من موسكو في هذه الساحة الصراعية السورية بين البيت الأبيض والكرملين.

كتكثيف:كان هناك اتجاه انسحابي أميركي من مناطق متعددة تاريخياً، مثل الهند الصينية(فييتنام، كمبوديا، لاوس)في فترة 1973-1974. كان ذلك الاتجاه الانسحابي تحت الضغط العسكري الفييتنامي. في الشرق الأوسط، رغم الفشل الأميركي في أفغانستان والعراق، لا يمكن القول بأن هذا الاتجاه الانسحابي الأميركي العسكري من الشرق الأوسط هو شبيه بذلك الذي كان في منطقة الهند الصينية.