عن فائض الدبلوماسية الروسيّة

تندرج الدعوة التي وجّهها وزير الخارجية الروسيّ سيرغي لافروف لكرد سوريا، مطلع الشهر الجاري، في خانة التصريحات الرتيبة والمكرّرة والأقرب إلى عملية تصدير فائض الدبلوماسية الروسية، هذا الفائض الذي يعتمد مقولتين رئيسيتين: تدعو الأولى كرد سوريا إلى الحوار مع دمشق من جهة، وإلى وصم الجهود الرامية إلى تثبيت اللامركزية القائمة في شمال شرقي سوريا بأنّها جزء من خطط “انفصاليّة” تحظى بدعم أميركي من جهة أخرى، وإذا كانت موسكو تدرك أهمية الحوار بالنسبة لكرد سوريا، فإنّها في الوقت ذاته متيقّنة أنّ لا جنوح انفصالي لدى كرد سوريا، كيف وهي الدولة الفدرالية أساساً (روسيا الاتحاديّة) والتي تدرك أكثر من غيرها الفرق الشاسع بين الحكم الذاتي/الاتحادي وبين الانفصال.

ثمة تصريحات مكرّرة أيضاً تطلقها الإدارة الذاتيّة في كل مناسبة تدعو فيها موسكو كرد سوريا إلى الحوار، ومفادها قبول الإدارة بالحوار واعتباره “خطوة نحو الحل”، وإذا كان اللافت في تصريح الوزير الروسي استعانته بتجربة العراق المجاور باعتباره “يشكل مثالاً جيداً يمكن الاستفادة منه”، فإننا أمام تطوّر مهم في تفهّم روسيا لحل القضية الكردية السوريّة، لكن هل عنى لافروف في مقاربته للمثال العراقي، النظام الاتحادي/الفيدرالي القائم في العراق على اعتباره عصب الحل في هذا المثال الذي حاول استلهامه؟.

في إزاء هذه المواقف المكرّرة بين الجانبين ثمّة تكرار لا تملّه دمشق، قائم على أساس دعوة كرد سوريا والإدارة الذاتية إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 2011 رغم معرفة النظام أن مياهاً كثيرة جرت في هذا النهر منذ بداية الأزمة.

تلمّح موسكو عبر الطلب إلى كرد سوريا بإبداء “استقلاليتهم”، فيما خصّ الحوار، إلى دور أميركي يعرقل هذا المسار، وهذا بدوره اتهام برأسين، الأول ينزع عن كرد سوريا استقلالية قرارهم الوطني وتصويرهم راضخين لأوامر واشنطن وسياساتها السورية، فيما يطاول الاتهام الثاني الولايات المتحدة التي تسعى عبر الكرد إلى تقسيم سوريا وتذريرها، وتلازم هذين الاتهامين مبنيّ على شكل التحالف الذي جمع كرد سوريا بالولايات المتحدة  في سياق محاربة تنظيم “داعش” والذي لم يسعد موسكو في أي لحظة منذ نهاية العام 2014 وحتى اللحظة، بل إنّ موسكو نشطت في مجال تأديب كرد سوريا عبر جعل عفرين الكردية إقطاعاً تركياً ومادّة للبازار مع الأخيرة، لكن ورغم ذلك لم تصف الأطراف الكردية موسكو بالعدو أو المحتل، بل أقرّوا بدورها الفاعل ونفوذها في سوريا، بل أبعد من ذلك التمس كرد سوريا دوراً روسياً راعياً للحوار مع النظام، ولعل الحوارات القليلة، وغير الجدّية، التي جرت بين الإدارة الذاتية والنظام كشفت غياب روسيا عن تلك الحوارات وعدم السعي إلى إنجاحها والضغط على طرفيها، وهو الأمر الذي يفسّر رغبة موسكو الحفاظ على مصالح تركيا ومراعاة هواجسها المتمثّلة بعدم انخراطها في رعاية وإنجاح أي اتفاق بين دمشق والقامشلي.

لم تغتنم موسكو الفرصة شبه المحققة لإنجاح الحوار الذي جرى بعد قليل من قرار الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب عام  2019 بالانسحاب، لتبدأ دمشق بوضع شروط إذعان على الإدارة الذاتية عوضاً عن الوصول إلى صيغ تفاهم قابلة للتطوير، وقد جاء موقف موسكو أقرب إلى الداعم لشروط النظام وتعنّته عبر التزامها الصمت عن شروط دمشق الصارمة وغير القابلة للتفاوض، وليزيد من إحجام موسكو تراجع واشنطن عن قرار الانسحاب.

ثمة مساحة لعودة موسكو إلى رعاية حل سياسي بين الإدارة الذاتية ودمشق في شكل حقيقي، ويعزّز من هذه الفرضيّة ما يرشح عن رغبة أميركية للوصول إلى تسوية مع روسيا في العديد من الملفّات في سوريا، ولعل ملف المعابر ونجاح القوّتين في الإبقاء على معبر باب الهوى على قيد الحياة لستة أشهر قابلة للتمديد، وما مثّله من إمكانية السير في مسائل مماثلة من خارج قوس قرار مجلس الأمن 2254، لذا قد تصبح رعاية موسكو لحوار بين الإدارة الذاتية والنظام جزءاً من حل يريح واشنطن من سؤال البقاء المفتوح في سوريا وما يستتبعه من التزام أميركا بتأمين حلفائها قبيل الانسحاب المقبل وغير المعلوم زمنياً.  

يمكن لموسكو أن تتولّى مهمّة رعاية حوار كهذا شريطة تحويله من فائض عمل دبلوماسي، إلى عمل دبلوماسي جدّي، وما يستوجبه من وضع تصوّرات تساعد الطرفين في تجاوز الخلافات ويخفّض من تصلّب النظام وعدميته المعهودة، وإذا كانت جنيف طريقاً متعرّجة للوصول إلى حل سياسي مستدام، فإن إمكانية الوصول إلى حل “مستقيم” عبر حوار بين سلطتين على الأرض وبما لا يتعارض مع مقرّرات جنيف يمثّل صمغ العلاقة الافتراضية المقبلة بين الولايات المتحدة وروسيا، ويعزز من إمكانية تحويل اللامركزية كمنطق حكم مستقبلي إلى بوابة لحل الأزمة السورية برمّتها.

وعلى اعتبار أن الإدارة الذاتية اختارت صيغة “الأبواب المفتوحة” وكذلك لأن الحركة السياسية الكردية متيقنة من أن موسكو تمثّل جزءاً من الحل، فإن الواقعيّة السياسيّة تتطلّب التقدّم بمبادرات حل سياسي لروسيا، بوصفها راعياً لمسارات أخرى، أستانا وسوتشي وجنيف، وعدم التعاطي مع التصريحات الرسمية الروسية طبقاً لقاعدة “رفع العتب”.