القبض على أفق المكان أو المكان مرة أخرى

القامشلي ـ نورث برس

لكل شيء حدٌّ وكمال. والمكان شيء من كل شيء. وصحبة الأشياء ـ الأمكنة على حدودها شغف. ومن قصَّر في حقها ضاق. ومن تجاوزها ضاع. فالمكان ليس فعلاً عابراً بل هو مستوى لوجود ووعي. لذلك، تراه يحترق، فهل يولد من جديد!؟.

هذا السؤال، بداية، تلتبس النية بالأمنية فتخفي، وتذكرنا جيداً بمعاني القرب، بـ”جماليات المكان” لـ”غاستون باشلار”، وما لم يرد عنده. تلك الأمكنة الممتلئة بصور تشهد على حطام كامل.

ولكن، لا أقصد أبداً أن أهمل الهسهسة التي تأتي من الأعماق، من مكان لا مدى لاتساعه.

عن شعرية المكان في اللوحة أكتب.

لوحة للفنان سيزان  

فاللوحة، هي “المنطوق اللوني” المُعَبِّر فنياً عن تصورات المكان واستعاراته في منعرجات تبدو طويلة و”مَحْلة”، وشديدة الوعورة. كما أنها دليلٌ حسّيٌّ على حياة الإنسان في يوم ما، أو آتٍ من زمن لم يَحن بعد.

ولطالما احتوت اللوحة على أبعاد جمالية وفكرية وروحية للإنسان (الفنان أو المتلقي، وهو الأهم) وملاذاً يعوذه عندما يشتد به الأنين ويشدُّه الحنين.

من هنا كان النظر إلى إشكال المكان ومطارحاته الجمالية وأبعاده الأخرى التي ساهمت في تشكيل مدارات ترصد حركة الإنسان، وتتبع خطواته داخل “كرونوس”، إله الزمن الفعَّال. “نظراً لأن حركة الواقع الإنساني تتغير داخل الزمن، وتمضي، فيما يشبه القانون، من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً، واستقراء التاريخ الإنساني يشير أيضاً إلى أن الظاهرة الإبداعية تنتقل من البسيط إلى المُرَكَّب، وهذا التصاعد باتجاه المزيد من التركيب يشي بأن مضمون العمل الإبداعي يتجه بدوره إلى نوع من التعقيد، والذي يؤشر بدوره على طبيعة المعنى “داخل العمل الإبداعي، عامة، والتشكيلي خاصة.”

فالانتقال بالمعنى من الأبسط نحو الأعقد، “هو انتقال من الوضوح باتجاه الغموض، وبالتالي هو تحول من المعنى المحدد باتجاه تعدد المعاني. أي باتجاه الانفتاح الدلالي.” ذلك لأن المكان، في حدوده القصوى، هو الكينونة وتمثلاتها “في تجسيدها وانقطاعاتها عن الذهنية البحتة ومطلقية التجريد، فهو المتلازم الأهم مع فكرة الوجود، حيث وجودٌ خارج المكان.”

والمكان المرتبط بالكينونة مكان (راوح)!، ولكنه يتجلى في أسطورة، أو في ديار كانت، أو في ما كان منه ذكريات متخفيه يمكن الاحتفاء بها بقليل من اللون المر والخط المنكسر، إلى آخره من التعينات التي يحاول الفنان القبض عليها جمالياً وفكرياً.

من هنا تنبع أهمية المكان وارتباطه الحميم بوعي الفنان، ومنجزه المُدرَك للبعد الجمالي، أي باللون، والخط، والخيال، والحنين، والوجع، والاستعادة، والتأسيس.

هكذا كان العديد من الفنانين وجدوا حياتهم مأخوذة برسم الأمكنة. مما يدعو للوقوف على حضور سمتين بارزتين: الانغماز المفرض باستعادة المكان، “وتخريج المعاني والدلالات منه.” والثاني: قدرة اللوحة على تناول مشكلة المكان هذه وتداولها إلى أن يستقر الأمر، أو يُفنى دونه.

فعلى طلل المكان الذي كان، أو تاه وضلَّ، هل ثمة مكان مُبتكر أو يُبتكر ضمن ذاكرة اللون وبقايا الخط ليستعيد (فناً) ما كان منه، أو ما يكون!؟.

مكان يحترق، ومكان احترق، ومكان يولد من جديد.

عن “أفق المكان في اللوحة” أكتب.

إعداد وتحرير: محي الدين ملك