في سبيل منهجية اقتصادية جديدة

في عالم اليوم لم يعد من الممكن تطوير اقتصاد منعزل، لقد تغيرت الظروف وتغيرت معها المفاهيم والسياسات والمناهج. في ظروف العولمة لم تعد الأفكار والسياسات الانعزالية تصلح لبناء اقتصاد ديناميكي متطور، فقد تبين بالتجربة أنها تستنزف الموارد المحلية، وتشوه الهياكل الاقتصادية الكلية والجزئية وتفقدها توازنها، وتؤدي إلى الاستقطاب الحاد في المجتمع، وتنمي الفساد والبيروقراطية، وفي المحصلة ينمو التخلف.

لم يعد من الممكن تجاهل منطق الاقتصاد وقوانينه العامة، ولم تعد بالتالي السياسات الإرادية الفوقية تصلح لبناء اقتصاد قوي ومتطور، فقد وصلت إلى نهايتها متسببة بتراكم مشكلات كثيرة في الاقتصاد والمجتمع كانت من جملة أسباب انتفاضة الشعب السوري في عام 2011.

وإذا كان النهج التنموي القائم على التدخل الحكومي الواسع والسياسات الحمائية المفرطة قد وصل إلى نهايته فليس البديل عنه في الليبرالية الجديدة أبداً كما يروج له دعاتها وأنصارها. فإذا كان “الاعوجاج لا يعالج باعوجاج إلى الطرف الأخر” كما تقول الحكمة الصينية، فإن الليبرالية الجديدة في الاقتصاد ليست أكثر من اعوجاج إلى الطرف الآخر. المسألة تكمن في اختيار نهج تنموي يجمع بين احترام القوانين الاقتصادية الموضوعية، وهذا يتطلب بالضرورة مزيداً من الحرية الاقتصادية والسياسية، وبين قيام الدولة بدورها الاقتصادي باعتبارها الراعي الأكبر للمصالح العامة، وهذا يتطلب منها التدخل في الكيان الاقتصادي. لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بأن تتخلى الدولة عن دورها ووظائفها ومسؤولياتها الاقتصادية، وأن تتحول إلى مجرد ناظر لنشاطات القطاع الخاص الاقتصادية.

الحكمة الاقتصادية والعلم الاقتصادي يتطلبان، خصوصاً في ظروف التخلف، تعيين حدود تدخل الدولة ومجالات نشاطاتها الاقتصادية الكلية أو الجزئية وحدود الحرية الاقتصادية ومجالات نشاط القطاع الخاص الكلية أو الجزئية. في هذا المجال لا توجد معايير عامة، فالمعايير تنبع من خصوصية كل بلد، وهي هنا أيضاً، في تغير دائم بحسب المرحلة التطورية التي يمر البلد بها. مع ذلك يمكن القبول بمبدأ عام كنت قد طرحته خلال المناقشات لورقة بحثية كنت قد تقدمت بها إلى مشروع “مسارات التنمية في سوريا” حتى  عام 2025 الذي أشرف على إدارته السيد جمال باروت بعنوان “المناخ الاستثماري في سوريا” يقول: “دع للقطاع الخاص ما ينجح به وراقبه، ودع للقطاع الحكومي ما ينجح به وحاسبه.”

في إطار هذه المنهجية الاقتصادية الجديدة ينبغي اعتماد فكرة التنافسية، التي تعني القدرة على إنتاج السلع والخدمات بكفاءة عالية في بيئة مفتوحة على المزاحمة. بعبارة أخرى، التنافسية هي القدرة على مواجهة المنتجات المماثلة والتفوق عليها في السوق المحلية وفي السوق العالمية. ومن أجل الفوز بهذه المنافسة ينبغي تركيز الإنتاج في  المجالات التي تتمتع بمزايا نسبية وهي في سوريا كثيرة ومتنوعة. في ضوء المزايا النسبية المتاحة هذه ينبغي التركيز على تكاليف المنتجات وعلى سعرها وعلى جودتها وتوصيلها إلى مستهلكها في الوقت المناسب والمكان المناسب والشكل المناسب. ومن المفهوم أن لكل من هذه المهام متطلباته الخاصة لكن مع ذلك لها جميعها متطلبات مشتركة يمكن اختصارها بكلمة واحدة هي: الشفافية. فالشفافية مطلوبة في الاقتصاد وفي التشريع وفي الإدارة وفي التجارة وفي الاستثمار وفي السياسة الاقتصادية الكلية والجزئية.

لكن لماذا الشفافية مطلوبة؟ الجواب هو ببساطة لأنها تعني حكم القانون ولأنها تظهر على السطح الكيفيات التي يعمل بها الفاعلون الاجتماعيون كل في مجاله الخاص، فتضعهم أمام أعين الملاحظين الذين يحددون الطلب على نتائج أعمالهم. بهذه الطريقة يضطر الفاعلون للاستجابة لطلب الملاحظين والعمل بنوعية عالية حتى يكون لمنتجاتهم طلب في السوق.

إن إجراء الصفقات من “تحت الطاولة” كان لها دورها الرئيسي في الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصاد العالمي قبل نحو عشر سنوات، وكادت تطيح بدول مثل اليونان والبرتغال وحتى إيطاليا وتعصف بسوريا اليوم. تحت الطاولة (اقتصاد الظل) هو مكان فاسد ينبغي اجتنابه.

صنف الاقتصاد السوري وفقاً لمعايير المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) ضمن مجموعة الدول النامية التي يعتمد النمو فيها على عوامل الإنتاج كمحرك رئيسي، وقد شغل المرتبة 80 من أصل 131 دولة شملها التقرير في عام 2008. وفي أول مشاركة لسوريا في تقرير التنافسية العربي لعام 2007 فقد شغلت المرتبة 84 من أصل 128 دولة شملها التقرير. ومع أن  مؤشرات التقرير الوطني تبين التحسن الذي طرأ على تنافسية الاقتصاد السوري بين عامي 2006 و2007 من جراء الإصلاحات التشريعية التي أنجزتها السلطة، إلا أنها مع ذلك تضع سوريا ضمن فئة القوة المعتدلة (قيمة المؤشر بين 50 و80 نقطة). وحتى المؤشرات الأمنية التي كانت تضع سوريا ضمن الفئة القوية جداً ( قيمة المؤشر أقل من 20 نقطة) قبل عام 2011 صارت ضعيفة جداً بعد عشر سنوات من الصراع في سوريا وعليها. ولهذا دلالته الخاصة من واقع تنامي العنف في سوريا في الوقت الراهن الذي يطرح تساؤلات كثيرة حول دور السلطة السورية في اصطناعه وتأجيجه.

في ظروف الصراع المسلح يشتغل اقتصاد الظل بفعالية لأنه يتجاوز كل القيود القانونية ويتصف بالمرونة، أما في ظروف السلم وإعادة إعمار البلد فلا بد من اعتماد سياسات اقتصادية كلية وقطاعية تقوم أساساً على الحوكمة الاقتصادية التي بدورها تتأسس على الشفافية، وإن تطبيق ذلك يحتاج إلى تجاوز مناخات الصراع المسلح واعتماد تسوية سياسية تعيد بناء الدولة السورية على أسس الديمقراطية والعلمانية واللامركزية.