بعيداً بالشكل وقريباً بالمحتوى.. رواية “عزلة صارخة جداً” للكاتب بوهوميل هرابال

القامشلي ـ نورث برس

خمسة وثلاثون عاماً، تجسدت، أحداثها، في هذه الرواية المُنمنمة. إنها قصة عزلة رجل عجوز، قضى تلك الأعوام يعمل على إتلاف الكتب، واللوحات الفنية، يسحق أطناناً منها على مرّ تلك السنوات، لا يستطيع التمييز بين الأفكار التي تأتي منه أو من الكتب.

وهذا ما أبقاه منسجماً مع جوهره ومع مظهر العالم من حوله خلال الخمسة وثلاثين سنة الماضية، بل وشاهداً على موت المعرفة.

وخلال تلك السنوات، حفظ وجمع أعداداً كبيرة من الكتب النادرة، والمحظورة: “عندما تحط عيناه على كتاب حقيقي، وتنظران إلى الكلمات المطبوعة، ما تريانه هو نوع من أفكار دون أجساد، تحلق في الهواء، تنزلق في الهواء، تعتاش على الهواء، تعود إلى الهواء، لأن كل شيء في النهاية هو هواء.”

في هذا المستودع، تتعرض الأوراق المهملة والكتب العتيقة، للسحق والتدمير، “في بلاد عُرفت كيفية القراءة والكتابة لخمسة عشر جيلاً.. في بلاد تُحكم فيه الممالك بالأعراف والهواجس.”

وفي خضم هذا الاشتباك اليومي، يعيش بطل الرواية، العجوز، أجواء درامية مع الآلة الهيدروكية (رمز توحدت فيه ظاهرة الرأسمالية) التي تسحق الكتب، فتحطم المعرفة، ويتم نقلها في عربة القطار، ثم إلى مصنع عجين الورق حيث تنزع الأسلاك، ويُعجن، ثم يتحول إلى نوع من القلويات، أو نوع من الآسيد.

إنها رواية الروائي نفسه، وهو يقف على تكسير ظهر الكتب وتهشيم المعرفة. رواية ليست مجرد مغامرة لغوية، أو لعبة إنشائية، بل هي علامة بارزة على سحق الإنسان بكل قوة.

فبعد الحرب العالمية الثانية كانت المعرفة أخطر عدو أمام أعداء المعرفة، الذين أرادوا أن ينتصروا عليها، وأن يتخلصوا من جميع الكتب والمؤلفات المعادية لهم، بنظرهم.

لكن العجوز حاول إنقاذ ما تبقى من هذه المعرفة، فأخذ يجمع ما يمكن جمعه في مسكنه الذي أصبح مكتظاً بالكتب والفئران. وعبر خط مواز، راح ينتقم من الكتب النازية، فيسحقها بكل ما أوتي من لذة الانتقام والانتقام اللذيذ.

يقول: “في الخمسينيات كان مستودعي مليئاً بالأدب النازي، ولم يكن هناك ما يثير متعتي غير سحق أطنان من كتب النازية ومخطوطاتها.”

على أن وقوف القارئ أمام أو على أطنان الكتب، وهو يسمع صخبها في جوف الآلة، قد يذهب في قراءته إلى مجازات، وصور، حتى يحاول من خلالها القبض على كامل المشهد.

مجاز لـ”أحمد مطر”: “مأساتي أثقل من لغتي/ زاد الثقل/ زاد الثقل على كلماتي/ زاد الثقل/ وتكسر ظهر الكلمات.”

صورة لـ”نزار قباني”: “أحاول إحراق كل النصوص التي أرتديها/ فبعض القصائد قبر/ وبعض اللغات كفنٌ.”

استدعاء هذه السياقات الشعرية، إنما يكشف عن جوهر العلامة الدالة للنص، ولكن، للعلامة حال آخر، وارتحال مختلف، وهو: “أن ثمة أحداث من الحياة اليومية يتورط فيها أناس عاديون من دون أن تكون لهم سلطة على سير الأمور أو قدرة على استيعاب ما يجري.

وهذا، بالضبط ما جرى لبطل الرواية، الذي واجه بمعرفته العفوية، والتي تحولت إلى شغف بالمعرفة طيلة خمسة وثلاثين سنة، أطرافاً أرادت أن تنتصر على المعرفة. ولكن، كيف ينتصر هو، وهو القائل: “أنا مجرم حقاً.. مجرم في حق الإنسانية”؟ هذا سؤال النص، أما جوابه، فهو صرخة ضد نهاية الإنسانية. يقول: “لن نُظهر أفضل ما لدينا.. حتى نُسحق تماماً.”

هذه العبارة مشكلة، تكشف، بل تتداخل فيها أزمنة وأمكنة لها تاريخ مع المصير المفزع للكتب والمكتبات التي إما افترستها الحروب، وإما تمت إبادتها. والنتيجة: “تدمير الذاكرة الإنسانية.”

حرق الكتب والمكتبات

ففي اللحظة التي فيها تستسلم الأشياء إلى أقصى سكونها، إلى ظلها، ستجد أن جمال هذه الرواية قد فاق فوق قبح الواقع.

إعداد: محي الدين ملك