لوحة.. لثمن غير طبيعي

القامشلي ـ نورث برس

لعل تقاليد الأجيال السابقة كانت تثقل كالكابوس على دماغ الأحياء، لأن الفقر يزداد بقدر زيادة الإنتاج، حسب تعبير ماركس. ولهذا فإن العظماء وجدوا أنفسهم في الفقراء والمنبوذين والمنسيين، وفي الكائنات الفريدة، الخارجين عن المألوف، على الهوامش الاجتماعية والفنية والفكرية لعصر الآلة والإنتاج الفائض.

وفي عام 1883، وهو عام وفاة ماركس، رسم الفنان فان جوخ لوحة “آكلو البطاطا”، أراد منها، كما يقول، التعبير عن الفكرة التالية: “إن أيدي الناس الذين يأكلون البطاطا تحت الفانوس، هي الأيدي ذاتها التي عملت في الأرض، لتقوم لوحتي بالتالي بتمثيل العمل اليدوي وذلك الطعام الذي كسبوه بشرف. أردت لها أن تكون دعوة للتفكير في حياة مختلفة تماماً عن حياتنا نحن المتمدننين. لهذا، لا أريد أن يجدها البعض جميلة أو حسنة.”

وفي عام 1888، كتب: “من المؤسف أن تكون تكاليف التصوير مرتفعة.”

في عام 1890، قرر “فان جوخ” وضع حدٍّ لحياته.. خيَّم الليل الحالك في جوف النهار الصاخب، وصارت السماء الزرقاء غامقة، غامضة فجأة، وامتلأت بالنجوم. لقد مات في تلك اللحظة. بكى ثيو، ونعقت الغربان. وتنهدت الحقول، وذبلت الأزهار الصفراء.

ثيو، كان هناك. وجد في جيب أخيه، رسالة ناقصة، يقول فيها: “.. حسناً، في عملي أغامر بحياتي وبعقلي شبه المحطم، وأنت لست من عداد تجار الرقيق حسب علمي، وبإمكانك اتخاذ موقف ينطلق فعلاً من إنسانيتك. ولكن، ماذا تريد؟”.

لم تقدم لوحة “آكلو البطاطا”، له، ثمن العصارة التي رسم بها. وما كاد يجف قبره، حتى تهافت الطفيليون والمتطفلون على اسمه كعلامة تجارية، وأخذوا اللوحة، وآخر قصاصة رسمها.

في عام 2006، حين مرةً زرت متحف “فرساي”، رأيت هناك على الجدار الثقيل بحداثته لوحة تحتفي بجلالها الأصفر الخارج من خزائن الأرض: لوحة لـ”فان جوخ” صاحبت المتخيل لدي. لم أصدِّق عينيَّ أنني رأيتها. لمست بأصابعي المنحدرات الوعرة للألوان الحارة والخطوط المتوارية. لم يكن الإحساس غريباً بالسطوح السميكة، كانت على نحوٍ تمثل “الانفعالات” و”التراكمات” المحطمة، والجريئة من أجل أن يقول لنا: الحياة قرار إنساني، فـ”إذا أردت أن تنمو فمن الضروري أن تغرق في التراب، لأن المهم هو ألا نجهل عصرنا الزائف، وأن نقول لأنفسنا إننا نحيا في قلب الألم، وتكمن المواساة في أنه لا يتوجب على المرء السعي وحده دوماً، بمشاعره وآرائه، بل لا بد من المشاركة والعمل بشكل جماعي.”

فان جوخ هناك، وجسده المنهك يتغذى من سديم الأرض، واللوحة جمال الواقع الشارد. ولنا أن نجد مسلكاً إليه، المسلك المرادف لرسالته: “لا أريد أن يجدها البعض جميلة أو حسنة”، لأن الجمال مبالغة الواقع الشرس.

إعداد وتحرير: محي الدين ملك