خيارات التنقل بين المحافظات السورية تنحصر بين السيء والأسوأ
دمشق ـ نورث برس
صعد أحد المسافرين من بانياس إلى دمشق في باص يعود لشركة مشهورة من محطتها في مدينة بانياس، ليجد أن هنالك شابة تجلس في مكانه، وخلال لحظات علت أصوات الصراخ، تحلى الشاب بالصبر وتجنب الدخول أكثر في صراع هو في غنى عنه كما قال، وتراجع إلى المقعد الأخير.
لم يكن هذا التبديل في المقاعد عبثي، إذ أن حال الجالسين في المقاعد الأخيرة من تلك الحافلة كحال العمال الذين يعملون في بيت النار بالمخابز، حيث صوت المحرك من جهة، وحرارة تلفح أقدامهم وظهورهم مع ما يشبه التكييف من جهة أخرى.
يقول المسافر أيهم الحاني (30 عاماً) وهو اسم مستعار لأحد سكان مدينة جبلة في اللاذقية، إنه يسافر بشكل دائم لأنه يخدم في صفوف قوات الحكومة السورية، وإنه جرب كل أنواع المواصلات التي تقله إلى مدينته.
ودائماً يكتشف “الحاني” أنها الرحلة الأسوأ، سواء كانت رحلته عبر الفانات أو مع البولمانات.
أما السيدة ساميا محمد (49 عاماً) من سكان دمشق، تسافر في بعض الأحيان إلى حلب بقصد زيارة ابنتها، فقد وصفت الحرارة داخل البولمان المتزامنة مع الطقس الحار بعملية “طهي للركاب”، إضافة لسوء المقاعد وعدم صيانتها، والذي جعلها مرهقة للساقين والظهر.
والمشكلة أنه حتى الحصول على هذا المقعد يحتاج إلى حجز قبل أربعة إلى خمسة أيام بسبب قلة الشركات والباصات التي تعمل، سواء بسبب نقص المحروقات وارتفاع أسعارها كما قال بعض السائقين، أو بسبب صعوبة تأمين قطع الغيار.
خيارات محدودة
النقل بين المحافظات هو الأسوأ بعد سنوات الحرب الطويلة، إذ أن الخيارات محدودة في السفر بواسطة الفانات غير المخصصة للسفر بين المحافظات.
ولكنها انتشرت خلال الحرب بسبب صعوبة الوصول إلى مناطق تواجد البولمانات في حرستا لسنوات طويلة حيث كانت منطقة مغلقة بسبب المعارك التي تحصل على الأوتوستراد وحالات القنص التي راح ضحيتها العشرات من العابرين لتلك المنطقة.
ومن أسباب انتشارها أيضاً، سهولة حركتها وسرعة امتلائها بشكل يقلل من زمن الانتظار، ونقلها للركاب من حاراتهم وأماكن سكنهم خاصة لمن هم في قطاع القوات الحكومية.
لكن مؤخراً، ارتفعت تسعيرة المقعد في الفانات إلى مبالغ كبيرة يتم تقديرها بشكل مزاجي، حيث تتراوح التسعيرة بين 13-20 ألف ليرة، لركاب دمشق ـ اللاذقية، وهذا المبلغ يشكل نسبة من الراتب خاصة لمن تفرض عليهم ظروف عملهم السفر بشكل دائم “كالعساكر”.
يقول أحمد مهنا (27 عاماً) وهو عنصر في القوات الحكومية لنورث برس، إنه اضطر لدفع كل ما في جيبه للسفر من دمشق إلى قريته في ريف جبلة، حيث فوجئ بالسعر المطلوب منه والبالغ 20 ألف ليرة في الفان.
ولكن “مهنا” كان عليه الامتثال ودفع هذا المبلغ، لكي لا يُضيع المزيد من الوقت في البحث عن بدائل أخرى على حساب الأيام القليلة من إجازته.
وشدد العنصر على أنه عند وصوله إلى مدينة جبلة اضطر إلى التواصل مع صديقه لنقله على الدراجة النارية بعدما دفع كل ما بحوزته.
وهذا ما وصفته والدة “مهنا” بـ”فقدان الرحمة من القلوب، إذ كيف لهم الجرأة على الاستغلال إلى هذا الحد خاصة للشباب في القطاع العسكري الذين هم في حالة سفر دائمة ترهقهم وترهق أهاليهم الذين يصرفون عليهم أجور النقل كما الطعام.”
ويبرر أصحاب الفانات ارتفاع التسعيرة بنقص مادة البنزين وشرائها من السوق الحر بمبلغ يصل إلى 50 ألف ليرة للغالون الذي تبلغ سعته 20 لتراً.
بحث عن بدائل
بعدما ارتفعت أجرة النقل في الفانات إلى هذا الحد، أصبح طلب السفر عبر البولمانات أكثر، ولكن للنقل عبر تلك الوسائل الكثير من المشاكل التي تبدأ من مراكز الانطلاق.
وتنطلق الباصات من مركز يقع في حرستا بدمشق، حيث تنتشر الأوساخ كيفما اتجهت، إضافة إلى غياب الأماكن المناسبة لانتظار مواعيد انطلاق الباصات، فيفترش المنتظرون لموعد الانطلاق من نساء وأطفال ومرضى الأرض، رغم كل الأوساخ التي تملأ المكان، لكن ساعات الانتظار الطويلة تفرض عليهم ذلك، كما قال بعضهم.

تقول راما الخليل (45 عاماً) وهو طبيبة أمراض داخلية تعمل في إحدى مشافي دمشق، لنورث برس، والتي كانت من بين المسافرين والمنتظرين لانطلاق البولمان إلى اللاذقية، إن من يتفحص وجوه الداخلين إلى مراكز الانطلاق يلاحظ أن هنالك الكثير منهم هم من مراجعي المشافي.
وأشارت إلى أن أغلب الحالات، خاصة المستعصية، تراجع مشافي دمشق قادمين من حلب وريفها وبقية المناطق الشرقية. وأضافت أن “شروط النقل سيئة جداً للأصحاء فكيف الحال مع المرضى ومن مسافات بعيدة؟.”
ويتصدر مركز الانطلاق حاجر تفتيش، وصفته المسافرة من دمشق إلى حلب، أمل العجوز (40 عاماً) بـ”المستفز”، إذ أن طريقتهم في التفتيش لا يمكنها أن تكشف أي خلل أو ممنوعات ومهربات.
وأشارت إلى أنه “بنفس الوقت يطلبون فتح الحقائب الصغيرة التي يضعون فيها ملابسهم وأشياءهم الخاصة، وأن من يبادر بدفع ” المعلوم” يمر دون تفتيش!.”
وأضافت: “حالما تنتهي من التفتيش يتلقفك (الوشيشة) الذين توظفهم الشركات بقصد تأمين الركاب لها.
ويملئ “الوشيشة” المكان المتسخ والواقع تحت أشعة الشمس دون حماية بـ”الصراخ”، فيزيدون الوضع السيء سوأً، كما يقول بعض القادمين إلى مركز الانطلاق.
ويمنع القانون عمل هؤلاء الأشخاص، كما أشار أحد العناصر الأمنية العاملة في المركز، ويتعرضون للتوقيف بشكل دائم، ولكنهم يعودون للعمل ثانية.
ضاعت أو سرقت
لا تهتم الشركات بحماية ممتلكات الركاب، فقد تفاجأت إحدى السيدات عندما وصلت من طرطوس إلى دمشق أن حقيبتها التي تحتوي على أدوية لابنها بقيمة لا تقل عن 100 ألف ليرة سورية، ليست موجودة في مستودع باص يعود لإحدى الشركات المعروفة.
وعندما سألت السيدة، القائمين على الرحلة، قالوا لها إنهم لا يعرفون شيئاً عن الموضوع، ولا يستطيعون أن يقدموا لها أي خدمة، ويتمنون أن يكون الأمر مجرد خطأ وليس بقصد السرقة، فعندها قد تعاد الحقيبة إلى المكتب في دمشق، ويعيدونها إليها.
أما الحظوظ الأسوأ من هذا وذاك، فهي تعرض البولمان لعطل في الطريق، تكون نتيجته رمي الركاب لساعات بانتظار وصول من يقلهم ثانية، أو إعادة إصلاح المركبة، فأغلب أساطيل النقل قديمة وأعطالها كثيرة، وقد يحصل العطل بعد انطلاق البولمان بمسافة قصيرة جداً، وهذا مشهد يكاد يكون شبه يومي.