تأملات في الروائع الفقيرة

القامشلي ـ نورث برس

قرأت يوماً أن الفيلسوف الفرنسي “برودون” أرَّقتْه مشكلة الفقر، فألَّف حولها كتاباً عنْونه “فلسفة البؤس”، وفصَّلَ فيه عن موضوعات شتى، أهمها: ما هو العمل والعالم الغريب الذي هو المجتمع وهو نحن؟ ثم عَرَضَه على كارل ماركس، فقرأه في يومين.

لكن “ماركس” أعلن بعدها أن الكتاب مرض يزيد من فقر الفقراء، ويضل سبيل تفكيرهم بحال وعيهم، وأن “برودون” لم يفهم الصراع الجدلي – المادي بين الطبقات، فضاع..

وعلى إثر هذا الجدال الطاحن ذهب “ماركس” إلى أبعد من ذلك، فألَّف كتاباً سماه “بؤس الفلسفة”، وكانت غايته الردّ المُبين على كتاب “برودون”، فهو، بحسب ماركس، يحاول إخفاء الحقيقة عن طريق استخدام المصطلحات التجريدية المزيفة.

ليس هذا وحسب، بل يذكر مؤرخو سيرة “ماركس”، أنه لم يستمتع خلال حياته بتأليف كتاب قدر استمتاعه بكتابة “بؤس الفلسفة”، والغريب أن ماركس نفسه عرض كتابه نفسه على “داروين”، فكان ردُّ الثاني بارداً، ومحتقراً أيَّما احتقار.

مات “برودون” ومات “ماركس” ومات “داروين”. وإذا صحَّ القول: “إن أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل، بل وهم المعرفة”، فيا للتعاسة!.

إلى جانب ذلك ظل الفقر يسرح ويمرح على الأرصفة، وفي الشوارع، دون توقف. وفي منازل الفقراء، يزاحمهم فيها، ولا يغادرهم أبداً.

كل هذا مهم، ولكن الأهم وبعيداً عن التناقضات الاقتصادية دعونا وبسرعة أن نختبر الفقر على المزَّاجة اللونية نتأمله بحُسْن النور الباهر وهو يتسرب إلى الزوايا المعتمة فيضيء منها ما يجب أن يُضاء.

عن نظرية “التكامل المتبادل” التي تفسر العلاقات بين الأفكار، وعملية ترتبط بقدرات ذهنية تعمل عملها لإيجاد وإبداع نماذج جديدة، عن رؤية المبدع للجمال الكامن والكامد في الفقر والفقراء فـإن كنت تبحث عن شيء تبدي فيه بسالة، فتأمل الفنون الجميلة، كما قال أحد الشعراء.

لوحة الفتاة ذات القِرْط اللؤلؤي – 1665، للفنان الهولندي يوهانس فيرمر

عن النور الذي يلمس برفْقٍ ولينٍ القِرْط التي في أذن الخادمة، النور الذي لم يكن مجرد وسيلة للجمال، بل كان هو الجمال. هكذا كان “فيرمر”.

عن الفنان الذي لا يمنعه حزنه من أن يرسم بقلب فرح.. فهذا “جبران” قد فعلها. عن “بول غيراغوسيان”، و”لؤي كيالي”، وكل الأسماء التي على شاكلتهم، وحاولوا أن يستخلصوا الجمال الذي ينفخ في لحنِ وحركةِ الفقراء. ذلك إن الفنان لم يستطع أن يفعل شيئاً سوى السعي وراء نداء الجمال، عن هذا أكتب.

لوحة  الفنان لؤي كيالي (1943 – 1978).

عن الروائع المُتَخَيَّلة من “التكامل المتبادل”، التي تقترب من أقصى الفن، عن الفن الذي هو الأداة الساحرة لإبراز ذلك النور حين يومض ذبذبات رائعة، ونسميه “الجمال”.

إعداد وتحرير: محي الدين ملك