المعابر مرّة أخرى

اكتشفت موسكو في تموز/يوليو من العام الفائت، سحر وقوّة المعابر كوسيلة للضغط على الدول المنخرطة في الصراع السوري، وكذا الأطراف المعارضة والمناوئة للنظام، وأهمية الاستفادة من ورقة كانت مطوية منذ العام 2014 حين كانت المعابر الأربعة، باب الهوى وباب السلامة مع تركيا واليعربية (تل كوجر) مع العراق والرمثا مع الأردن، مشرّعة أمام حركة دخول المساعدات الإنسانية وأعمال الإغاثة، ليصار إلى تقليص المعابر إلى المعبرين مع تركيا مطلع العام 2020، ثم يقتصر الأمر على معبر باب الهوى في ذات العام طبقاً لقرار مجلس الأمن 2533.

يشكّل اتفاق المعابر واحداً من اختبارات العلاقة بين الرئيسين، بوتين وبايدن، في الملف السوري، وإمكانية تجسير الهوّة السحيقة بين الجانبين، ذلك أن إشارة الرئيس الأميركي بعيد القمّة التي جمعته في بروكسل بنظيره الروسي جاءت واضحة “سنتحقق في غضون ستة أشهر إلى عام فيما إذا كان بمقدورنا بناء حوار استراتيجي فعال”، ولعل اختبار المعابر يشكّل الأرض الرحبة للتعاون بين هاتين القوّتين، وهو مقرون بعودة موسكو إلى اتفاق فتح المعابر الأربعة مع تركيا والعراق والأردن أمام المساعدات الإنسانيّة، ورغم أن التركيز يتكثّف على المعابر السوريّة- التركيّة التي تمدّ ما مجموعه ثلاثة ملايين سوري في مناطق سيطرة المعارضة المسلّحة وجبهة النصرة، إلّا أن حجم المناشدات التي أبدتها المنظّمات وهيئات الإغاثة الدوليّة لم تغفل معبر اليعربيّة مع العراق، الذي ألحق تعطيله ضرراً بالغاً بمسار المساعدات لمناطق شمال شرقي سوريا وبكتلة سكانية مهولة تقدّر بما يربو عن أربعة ملايين سوري.

تنطلق المحاججة الروسيّة من أن المعابر ينبغي أن تصبح تحت سيطرة الدولة/النظام، وأن خروج المعابر عن سلطة الدولة يشكّل نسغ الحياة للتنظيمات الإرهابية (جبهة النصرة)، وأن البديل الروسي المتاح في هذه الأثناء هو تنظيم ثلاثة معابر داخلية بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام، اثنتين في إدلب وثالثة في ريف حلب الشمالي، وهو ما قد يشكّل عملية احتواء للدور التركي ويقلّص من نفوذ المعارضة ويربط قرار الغذاء والدواء بيد النظام وهو ما تخشاه واشنطن رغم الافتراق الأميركي التركي في ملف مناطق سيطرة الأخير رفقة المعارضة الموالية له.

وتتحرك مسألة المعابر التي ستناقش بعد العاشر من الشهر الجاري في مجلس الأمن بين إمكانية تجديد تفويض المعابر والإبقاء على القرار 2533 المتصل بالإبقاء على معبر باب الهوى فاعلاً خارج سلطة النظام، أو تسجيل فيتو روسي – صيني آخر يحول دون منح الإذن من مجلس الأمن لأيّ معبر خارج سيطرة دمشق، ما يعني إبطال القرار 2533، لكن حدوث سيناريو كهذا يعني إمكانية وقف أي إمكانية توافق استراتيجي روسي أميركي على النحو الذي فُهم من تصريح الرئيس الأميركي، ويعني كذلك إمكانية حدوث كارثة إنسانية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، شرق وغرب الفرات، خصوصاً وأنّ جهود تطويق تفشي وباء كورونا في سوريا ما تزال دون الحدود الدنيا.

ثمة تركيز أممي وآخر أميركي على إعادة افتتاح معبر اليعربية، عبر مناشدات ونداءات والتماسات تقدّمها المنظمات الإنسانية، وهذا بدوره تصعيد إيجابي لصالح تخفيض فرص الفيتو الروسي على منطقة شمال شرقي سوريا التي زادت احتياجاتها الصحية بمقدار 38% منذ إغلاق معبر اليعربية العام الفائت وفقاً لممثلة المملكة المتحدة في الأمم المتحدة، فيما تحاجج روسيا بعدم الحاجة للمعبر نظراً “لزيادة المساعدات” لمناطق الإدارة الذاتية وهو قول ينطلي على زيف بيّن لا سيّما في ملف تراجع دور دمشق في الرعاية الصحية وجهود مكافحة وباء كورونا.

في الميزان، يشير الترجيح إلى إمكانية استخدام روسيا الفيتو مرّة أخرى، رغم المناشدات الأممية والسعي الأميركي، ورغم رفع ملف المعابر إلى مصافي المدخل لحوار استراتيجي روسي أميركي أكثر تماسكاً وحكمة في سوريا. وأما ترجيح الفيتو فمبنيّ على عدة معطيات، الأول هو رغبة موسكو ضبط حركة المساعدات وحصرها في يد دمشق وما يعنيه من إسباغ للشرعية للنظام وهو ما ترفضه الدول الغربية والولايات المتحدة، والمعطى الثاني هو حاجة النظام – موسكو للأموال التي توفّرها المساعدات الإنسانية وحركة المرور، والثالث مرتبط بتقليص نفوذ المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق ومحاولة احتوائها، ويضاف إلى ذلك أن البديل الروسي يتمثّل بالمعابر الداخلية بعد وقف المعابر مع دول الجوار، ذلك أن المعابر الداخلية تجعل من سلاحي الغذاء والدواء جزءاً من عدّة موسكو ودمشق لضبط الأوضاع والتحكّم بحيوات السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق، كما لا يمكن إغفال نقطة قد تراها موسكو غاية في الأهمية وهي ما الذي سيقدّمه المجتمع الدولي والولايات المتحدة وشركائها الغربيين والعرب في مقابل فتح الحدود والعودة إلى صيغة 2014، وبذا لا تجد موسكو نفسها مضطرّة إلى عدم استخدام الفيتو في الأيام المقبلة.

ترى موسكو ودمشق في إنعاش المعابر خارج سيطرتهما إضعافاً لدورهما وتكريساً لواقع تعدّد السُلطات، ولكن ما يربك موسكو هو احتمالات دفع واشنطن، حال استعمال الفيتو، إلى إبداء المزيد من التصلّب إزاء الأدوار الروسية في سوريا وإبطال حظوظ الحوار بينهما، والإحجام عن تقديم المساعدات عبر دمشق وما يعنيه ذلك من حصول كارثة إنسانية سيسعى المجتمع الدولي تحميل وزرها لموسكو، وهو باب دعائيّ غربيّ قد يسبب لروسيا صداعاً إضافياً.