الانتحار “الإيثاري” من الاجتماع إلى الأدب

القامشلي – نورث برس

للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركايم”، وجهة نظر تستحق النظر، وقد وضعها في كتابه “الانتحار”. وهو بحث عميق من حيث الأصالة، وغميق من حيث الإحالة عن الدوافع والأسباب الخارجية للانتحار، فضلاً عن تحديد سلوك الفرد ذاته، وتوضيحٌ لمعالمِ النطاق الذي ينتج عليه الصراع القائم بين البنى الاجتماعية وبين الفرد الذي يقوم في النهاية بتعطيل حياته عن العمل، وإلى الأبد.

لقد وجد “دوركايم” التأثير المجتمعي واضحاً في هذه المسألة. خاصة أنه كان يُنظر إليها كأفعال فردية خالصة لأي سبب كان.

لكن “دوركايم” رفض هذه الفكرة رفضاً تاماً، وقام بدراسة هذه الظاهرة من زاوية مختلفة كلياً (المنهج الوظيفي)، وسماها “الحقيقة”: الانتحار كحقيقة من حقائق المجتمع، ولا بد أن نفهم هذه الحقيقة ضمن نطاق الحقائق الاجتماعية الأخرى، كما أنها تمدنا بفهم آخر عن الحقائق الأخرى.

بعد أن درس حالات الانتحار دراسة دقيقة، توصل إلى خلاصات هامة، وخرج بتفسير، وهو أن الانتحار كظاهرة اجتماعية.. وكحقيقة من حقائق المجتمع.. وكواقعة تقع في نطاق المجتمع، يمكن أن يُفَسَّر بعامل “الدمج”، بمعنى، كلما كان الفرد أكثر اندماجاً في المجتمع كلما كان بعيداً عن الانتحار بحسب قوانين وقواعد سلوك المجتمع، وإلا فإنه قاب قوسين من إنهاء حياته.

قد يكون الانتحار ظاهرة في كل الأزمنة، لكن الحاجة تشتد لفهمها اليوم. فبعد قراءة كتاب “دوركايم”، ربما ستدرك أنك اقتحمت قصة أشخاص قلبت الظروف الاجتماعية حياتهم، وابتلعتهم أشياء المجتمع.

لوحة انتحار سقراط – للفنان جاك لويس دافيد – 1787.

وربما ستدرك بعد حين الأسباب التي تدفعنا نحن الأحياء حتى الموت، عن أي انتحار نتحدث؟ نقصد، حين تمتزج حياتك بحياة الذين انتحروا، ستشعر كمن يهرب في أمكنتهم الخاوية، الخالية، الموحشة، لأن ظاهرة الانتحار، ما هي إلا ظلال ثقيلة تعيش في أرواح مجهولة.

استدراك: قلنا، توصل “دوركايم” إلى عدة خلاصات هامة، منها: “الانتحار الإيثاري”، بمعنى، إذا كان الشخص أكثر اندماجاً، وأكثر من اللازم، وخاصة في أوقات الأزمات، وضياع الآمال فإنه يتألم، بل ويتفاعل تفاعلاً يفوق الطبيعي، أي يصبح هو المجتمع والمجتمع هو. هذا الاستدراك، جسده خير تجسيد الروائي أرنست همنغواي وفرجينيا وولف، وجسدَّه الشاعر خليل الحاوي، الذي قال: “يا إلهي، كيف أستطيع تحمل كل هذا العار”، ثم انتحر. انتحر:

بعد أن عانى دوار البحر..

ومدى المجهول ينشق عن المجهول، من موت محيق.

ينشر الأكفان زرقاً للغريق.

يعلق أحدهم: “حطَّ البَّحَار في أرض الشرق، الشرق الذي يسدُّ أُذنيه دون النداء، نداء المجهول، الشرق الراضي القانع ببلادته الدهرية، تغويه الموانئ البعيدات، ولا يحلم بشموس جديدة..”، الشرق الذي يجسده “الدرويش” وقد:

شرشت رجلاه في الوحل وبات

ساكناً، يمتص ما تنصحه الأرض الموات.

هكذا، لقد عظمت المهمة، فَعَظُم العبء حتى أنه لم يجد مقراً في بحر الخراب يرسل إليه مرساته.

يقول:

أَنَجُرُّ العمرَ مشلولاً مدمًّى في دروبٍ هدَّها عبءُ الصليبْ

دون جدوى، دون إِيمانٍ بفردوسٍ قريبْ

عمرُنا الميِّتُ ما عادتْ تدمِّيه الذنوبْ والنيوب

ما علَيْنا لَوْ رَهنَّاهُ لدى الوحشِ

أو لدى الثعلَبِ في السوقِ المُريبْ

ومَلأنَا جَوفَنا المَنْهومَ مِنْ وهجِ النُّضار

ثُمَّ نادَمنا الطواغِيتَ الكبارْ

فاعتَصَرْنا الخمرَ من جوعِ العَذارى

والتَهمْنا لحمَ أطفالٍ صغارْ

وَغَفوْنا غَفْوَ دُبٍّ قُطُبيٍّ

كهْفُه منطمِسٌ، أعمى الجِدارْ

إنها خيبات المجتمع. هزائمه، ومحارقه، إنها خذلان الكتابة، والانتحار من بداية الاجتماع إلى نهاية الأدب محاولة كي لا تفقد الإنسان الذي أمامك.. الذي هو جزء منك.

إعداد وتحرير: نور حسن