فرنسا وتطور سياسات الهجرة.. صراع داخل الاتحاد الأوروبي

لمى الأتاسي

رغم كل الاتهامات التي توجه لفرنسا إلا أننا نلاحظ أن فرنسا تعتبر عملياً من الدولة الأقل عنصرية في أوروبا والغرب عموماً.

وللتذكير، عندما لاح شبح استقبال اللاجئين السوريين في الأفق وطلبت فرنسا ومعها ألمانيا كرائدتي سياسات الاتحاد الأوروبي. فرض فتح أبواب أوروبا في وجه اللاجئين كان رد فعل البريطانيين الانسحاب تماماً من أوروبا. تعدد الأبحاث خمسة أسباب للبريكست لكن أولها كانت سياسات الهجرة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي.

المهاجرين الذين استقبلتهم بريطانيا لم يكونوا من سوريا ولا من آسيا أو أفريقيا, بل النسبة الأعلى للمهاجرين الشرعيين لديها كانوا من دول أوروبا الشرقية وبالتحديد بولونيا, رومانيا, ودول البلطيق. قوانين الاتحاد الأوروبي كانت تفرض حرية التحرك بين دول الاتحاد مما اتاح لمواطني تلك الدول الاستقرار في بريطانيا. وهذا جعلهم منافسين في سوق العمل للبريطانيين وجعل منهم غريماً يجب طرده دون أدنى مراعاة للظروف القاسية التي يعيشها سكان تلك الدول. بهذا القرار الشعبي استبقت بريطانيا قراراً أوروبياً يلزمها بالمشاركة بحل أزمة اللاجئين السوريين نحو أوروبا.

 الغريب أن هناك دراسة اجتماعية أجريت عام 2014 تؤكد أن 60 بالمئة من أبناء المهاجرين المستوطنين في بريطانيا لا يريدون لغيرهم أن يستوطنوا؟.

الشعب البريطاني لا يريد مشاركة خيراته مع غرباء كما فعل الفرنسي والألماني والسويدي. ولكنه ليس وحده. فالتيار اليميني في الاتحاد اعتمد منذ عام 2014 سياسة الحذر من استقبال اللاجئين وبرر قراره هذا كون هذه السياسة الإنسانية مكلفة ومعيقة للتطور وكذلك للديمقراطية وللسيادات الوطنية.

الذي حرك الأزمة داخل الاتحاد الأوروبي هو قرار استقبال اللاجئين السوريين ومحاولة فرض نظام الكوتا أي وضع نسب لكل بلد لاستقبال لاجئين تفرض على الدول الأعضاء وأتى هذا متزامناً مع قرار انسحاب بريطانيا (البريكست), حينها أعلنت كل الأحزاب اليمينية المحافظة في أوروبا عن رغبتها بسحب دولها من الاتحاد الأوروبي خشية على مصالح دولها الاقتصادية.

لربما هرم الشعوب وأزمة التجدد الديموغرافي يبرران سياسات ألمانيا والسويد باستقبال اللاجئين, ولكن فرنسا لا تعاني قط من أي أزمة ديمغرافية رغم هذا استقبلت وقادت صراعاً داخل الاتحاد الأوروبي للدفاع عن استقبال اللاجئين في أوروبا. أما هذا الصراع الخارجي الذي خاضته فرنسا عبر حكوماتها المتعاقبة في السنوات الأخيرة فلقد كان له آثار سلبية داخلياً على استقرارها ودفعت ثمنه البلاد عبر موجة الاحتجاجات التي سبقت جائحة كورونا, لقد قسمت سياسة فرنسا الأوروبية تجاه اللاجئين الشارع الفرنسي ووقعت الأحزاب السياسية والتيارات بأزمة تطرف لم تخرج منها فرنسا بعد.

ولكن تاريخ فرنسا مع الهجرة لا يسمح للمواطنين الرافضين للاجئين بالتعبير عن رفضهم بوضوح أي بذات العنصرية الصارخة التي عبر بها عن نفسه الإنجليزي والدانماركي والنمساوي والأسترالي أو الروسي.

 في فرنسا توجد قيود وحواجز حقيقية, تحول دون هكذا وضوح بالتعبير ولها اسم وهو مناهضة العنصرية. وأسباب هذا الفكر الفرنسي الإنساني تعود لتاريخ فرنسا مع الهجرة والاستيطان ففرنسا بلد استيطان منذ عام 1881.

استقبلت في البداية الأوروبيين القادمين من ايطاليا وبعدهم البلجيكيين ثم الإسبانيين والبولونيين واليوغسلاف والأتراك أو بالأحرى الأرمن الأتراك. وثم موجات كبيرة من الجزائريين والبرتغاليين والمغاربة والتوانسة والأفارقة عموماً، وبعدهم أتى معارضون للديكتاتوريات من روسيا وأميركا اللاتينية وغيرهم.

منذ الحرب العالمية الأولى شارك الأجانب بالدفاع عن فرنسا وسقط الكثيرون في صفوف الجيش الفرنسي دفاعاً عن العلم وحتى في مرحلة المقاومة مع الحلفاء كان مع الجنرال ديغول مناضلين أجانب من الأحزاب الشيوعية من وبولونيا ومن الأرمن وغيرهم.

في الثلاثينيات عندما أغلقت الولايات المتحدة ومعها كندا أبواب الاستيطان لديهم فتحت فرنسا أبوابها, عن حاجة ديمغرافية لليد العاملة, حيث بعد الحرب العالمية الثانية بدأت مرحلة إعمار وصناعة احتاجت فيها فرنسا لعمال ومزارعين.

لمراحل طويلة فشلت الحكومة الفرنسية بتنظيم استقبال القادمين فتمت إدارة الموضوع عبر الشركات خاصة التي كانت تحضر العمال من دولهم بعقود. كما في مراحل سابقة وقعت فرنسا اتفاقيات مع دول لاستقدام عمال. وكان هناك لغاية السبعينات هامش كبير للهجرة غير الشرعية. وعانى المهاجرون في العقود الماضية من ظروف معيشية صعبة فسكن العمال الجزائريون والبرتغاليون لسنوات طويلة دون أسرهم في المساكن العشوائية حول المدن وبعضهم كان لمدة طويلة مُستغلاً يعيش ويعمل بدون أوراق, وكانت المساكن هذه تشبه المخيمات التي نعرفها في لبنان اليوم أي تفتقر لأبسط ظروف العيش الإنساني, كلها كانت خارج المدن الكبيرة لا تتوفر فيها ظروف معيشية لائقة. كان عدد قاطني ما سمي بالبيدون فيل في ضواحي باريس لا يقل عن خمسين ألف ساكن معظمهم رجال يعانون من العزلة والفراق لكون قانون ضم الأسرة لم يكن سارياً آنذاك ولكونهم كانوا يعاملون باستغلال وعنصرية. كان العامل يأتي لوحده للعمل تاركاً أسرته في بلاده.

عام 1974 خفّت احتياجات فرنسا للعمال وكانت هناك أزمة اقتصادية أدت لإغلاق باب الهجرة ولكن بالمقابل كانت هناك صحوة سياسية أدت لتعميم قانون جديد عام 1976 كان له أثر كبير وما زال على نوعية الهجرة اليوم وهو قانون لم الشمل, ومن حينها أصبح المهاجر الحاصل على وثيقة إقامة وعمل له الحق بإحضار زوجته وأولاده.

فيما بعد حدد الاتحاد الأوروبي قوانين ملزمة بحد أدنى للدول الأعضاء تعمم قانون لم الشمل فيها, مما أتاح لمقيمين لاجئين وغيرهم من إحضار أسرهم بعد عامين من إقامتهم.

قانون لم الشمل الذي ظهر جدياً نهاية السبعينيات في فرنسا شكل تحولاً تاريخياً في تعامل فرنسا مع المهاجرين فهو أصبح يأخذ بعين الاعتبار حق الإنسان الأجنبي بأن يعيش حياة لائقة, متوازنة وطبيعية ككل المواطنين مع زوجته وأبنائه.

السوري الذي حضر حديثاً رغم الظروف الصعبة التي صاحبت استيطانه لا يعرف الكثير وللأسف عن تاريخ الهجرة في الدول التي قدم إليها ولا عن مراحل التحول التي مرت بها تلك المجتمعات ولا عن الإرث الثقافي الحديث للمهاجرين في تلك الدول. قارن الكثير من الأوروبيين نزوح الإسبان لفرنسا في عهد فرانكو بنزوح اللاجئين السوريين من مجازر نظام الأسد وللحق كانت درجة التعاطف الشعبي مع القادمين السوريين عالية جداً وساهم فيها أغلب السكان وكذلك الكثير من أبناء المهاجرين السابقين من المغرب الكبير. وهذا التعاطف سهل اللجوء بالإضافة لقرارات الدولة وسياستها الحديثة العادلة فيما يخص المهاجرين.

الانتخابات الإقليمية الأخيرة في فرنسا أظهرت تشتتاً في الوسط السياسي لكنها أظهرت اعتدالاً بقرارات الشعب الفرنسي وتوازناً، فهو لم ينتخب المتطرفين لا من اليمين ولا من اليسار.

 فهل يا ترى سيكمل هذا الشعب الممتزج الثقافات اعتداله في الانتخابات الرئاسية القادمة؟.