المثقفون والسياسة

كان موريس توريز أميناً عاماً للحزب الشيوعي الفرنسي فترة 1930-1964 وكان جورج مارشيه في المنصب نفسه فترة 1972-1994. كان توريز عاملاً في المناجم، بينما مارشيه عاملاً ميكانيكياً. قاد الاثنان حزباً كان يضم أفضل أدباء فرنسا من روائيين وشعراء، مثل بول نيزان وبول إيلوار ولويس أراغون، وفنانين مثل بابلو بيكاسو، وفلاسفة وأكاديميين مثل جورج بوليتزر وهنري لوفيفر وروجيه غارودي ولوي ألتوسير.

أصبح هؤلاء المثقفون، وبعضهم من الفلاسفة كان مفكراً بحسب التعريف “من ينتج أفكاراً جديدة أو يشرح أفكاراً قديمة بطريقة جديدة”، ساسة من خلال انتظامهم في حزب سياسي وخضوعهم للتراتبية الحزبية، وأصبح بعضهم أعضاء بارعين في البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) مثل غارودي ، ولم يجد بعضهم غضاضة، مثل لوفيفر في الخمسينيات، عندما صعدت موجة الفلسفة الوجودية ،في أن يشن حرباً فلسفية عبر كتب على جان بول سارتر بتوجيهات من الحزب. وحتى عندما كان بعضهم يختلف مع الحزب فإنه كان يتركه لأسباب سياسية أو فكرية – سياسية، مثل نيزان الذي احتج وترك الحزب عام 1939 بسبب تأييده للمعاهدة الألمانية-السوفياتية، أو لوفيفر في أواخر الخمسينيات عندما ترك الحزب بسبب النزعة الستالينية، أو غارودي الذي اختلف مع الحزب بسبب الموقف من الثورة الطلابية عام 1968 والغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا في العام نفسه. لم يترك الثلاثة الحزب بسبب قضية ثقافية أومن أجل فردانية المثقف بل من أجل السياسة أو الفكر السياسي، وحتى عندما كانوا يختلفون مع مفكر حزبي آخر، مثل خلاف لوفيفر وغارودي مع ألتوسير، فإن هذا كان بسبب قضايا فكرية تؤثر على فكر وأيديولوجية الحزب، حيث اختلفا مع ألتوسير بسبب محاولته دمج البنيوية مع الماركسية، وهو ما ترافق عنده مع نزعة ستالينية فكرية جديدة تحاول إلغاء ماركس ما قبل 1848 لصالح ماركس ما بعد “البيان الشيوعي” وتحاول إيجاد انفصال بين “ماركس الشاب” و”ماركس الناضج”.

هنا، في العالم العربي، لا نجد تلك الحالة الفرنسية، حيث قليل من المثقفين من انتظم في حزب أو تحمل البقاء به طويلاً، مثل سمير أمين ومحمود أمين العالم عند الشيوعيين المصريين حيث ظلا في التزام وانتظام بالعمل الحزبي، بينما في الأحزاب الشيوعية القوية، في العراق وسوريا والسودان، كان عدد المثقفين قليلاً، وحتى عندما وجدوا فإن القيادة الحزبية غالباً ما اتجهت إلى إخراجهم من الحزب بسبب آرائهم، مثل إلياس مرقص وياسين الحافظ في الحزب الشيوعي السوري عندما فصلا في عام 1957، وحتى عندما وجد أدباء وشعراء في الحزب الشيوعي السوري فإن بقاءهم كان بالتأكيد  يعبر عن قناعاتهم ولكن كان أيضاً هناك نوع من الاستفادة من الحزب في الترويج لكتاباتهم أو في تصعيد بعضهم في مؤسسات السلطة، بعد بدء تجربة “الجبهة” عام 1972، وخاصة في وزارة الثقافة أوفي اتحاد الكتًاب.

ولا نجد عند البعثيين الكثير من المثقفين الذين انتظموا في العمل الحزبي، رغم أن ميشال عفلق كان مثقفاً- مفكراً، وكذلك عند الناصريين، مع استدراك وتأكيد الظاهرة-الاستثناء التي اسمها جمال الأتاسي الذي جمع حدود الفكر والسياسة والتنظيم في العمل الحزبي، فيما نجد ناصريين بارعين في السياسة دون الفكر والتنظيم، أو بارعين في التنظيم دون الفكر والسياسة، وهي حالات نجد مثيلها عند الشيوعيين والبعثيين.

 عند جماعة الإخوان المسلمين نجد مثقفين-مفكرين مثل مصطفى السباعي وسيد قطب وعبدالقادر عودة انتظموا في المؤسسة السياسية، ولو أنهم  بعد 1970 افتقدوا الإنتاج الفكري ووجود  مثقفين-مفكرين  لصالح حركيين بارعين فقط في السياسة ،مثل عمر التلمساني، أو بارعين  فقط في التنظيم مثل محمود عزت.

هذه الحالة عند العرب يمكن تلمسها في صفحات الرأي في الصحافة العربية، حيث نجد المثقف من دون تجربة سياسية، سواء في حزب معارض أو في مؤسسات السلطة، كيف يعالج القضايا السياسية من خلال رؤية ثقافية للسياسة يعتبر فيها الأخيرة بأنها تطبيق لمقولات ثقافية أو فكرية عند هذا الاتجاه السياسي أو ذاك، أو يعالج العلاقات الدولية من هذا المنطلق، أو نجد مثقفاً آخر يعالج السياسة من منطلق أخلاقي أو حقوقي من خلال كونها “صراعاً بين الخير والشر أو بين الحق والباطل”.

هؤلاء وهؤلاء لا يستطيعون إدراك عبارة ستالين لتشرشل عندما أخبره في مؤتمر يالطا في شباط/ فبراير 1945 أن بابا الفاتيكان قد أعلن الحرب على الألمان، حيث يروي تشرشل في مذكراته  بعد عقد من الزمن تلك العبارة: “كم دبابة عند البابا؟”، وهو يعيش حيرة المؤيد أو الرافض لمنطق تلك العبارة التي ترى أن السياسة تقاس من خلال موازين القوى وترى أن عملية تحقيق أهداف السياسة تتم من خلال تلك الموازين.

عبارة ستالين هذه تعتبر السياسة “مملكة للأفعال الموضوعية” وأن الذات السياسية تحقق أهدافها عبر فعلها وإرادتها السياسيتين من خلال إدراكها لموازين قوى “الموضوع”. لذلك نجد من له خبرة سياسية لا يستخدم في نصه السياسي عبارات مثل “إنني أرى” و”إنني أعتقد” و”يجب”، بل ينقب في الوقائع السياسية ويحللها لإثبات أو لاستخلاص فكرته، ولا يثبت الفكرة بالفكرة بل بالوقائع على الأرض، بخلاف أصحاب “التفسيرات الثقافية للسياسة” أو “التفسيرات الأخلاقية والحقوقية للسياسة.”

هذا الانفصام بين المثقف والسياسة، هو الذي يجعل كتابات إدوارد سعيد في الصحافة، مثل تلك التي كان ينشرها في جريدة “الحياة”، أقل مستوى بكثير من كتاباته الأكاديمية. حالة إدوارد سعيد تنطبق على برهان غليون. لا نجد ذلك عند مثقفين، مثل عزيز الحاج وهو قيادي في الحزب الشيوعي العراقي قاد انشقاق جناح “القيادة المركزية” عن الحزب عام 1967،ولاعند مثقفين-مفكرين دخلوا في العمل السياسي الحزبي المباشر مثل ياسين الحافظ، حيث لا تقل كتاباتهما الصحافية في المستوى عن كتاباتهم الثقافية والفكرية.