النتائج الاقتصادية للصراع في سوريا وعليها (2)

إن إدراك حقيقة التباين بين مختلف أنواع الصدمات التي يتعرض لها اقتصاد دولة ما يساعد كثيراً في التخطيط الدقيق لسياسات تحفيزه وإعادة تشغيله بفعالية. من هذا المنظور يرى معدو تقرير البنك الدولي بخصوص خسائر الاقتصاد السوري نتيجة الأزمة، والذي استعرضناه في المقالة السابقة، أنه بدون بناء المؤسسات الاقتصادية واستعادة الشبكات فيما بينها وبين مختلف المناطق، لن يكون لاستبدال رأس المال في حد ذاته أي أثر بعيد يساعد الاقتصاد على التعافي. وكلما طالت فترة الصراع زادت صعوبة التعافي بعد توقفه.

ومع أن معدل التدهور أخذ خطاً صاعداً في السنوات الأربع الأولى من بدء الصراع، لكنه بدأ يتراجع بعد ذلك، لكن آثاره تصير أكثر استمراراً. فبحسب معدي التقرير فإن الصراع لو توقف في سنته السادسة فإن الناتج المحلي سوف يستعيض نحو 41% من قيمته قبل نشوب الصراع خلال السنوات الأربع التالية لتوقفه. لكن لو استمر الصراع عشر سنوات فإن الخسائر الاقتصادية التراكمية سوف تصل إلى 7.6 ضعف قيمة الناتج المحلي في عام 2010. وعلى افتراض توقف الصراع بعد ذلك فإنه خلال السنوات الأربع التي سوف تلي ذلك لن يستعيض  الاقتصاد أكثر من 28% من قيمته في عام 2010.

يمكن القول إن تقرير البنك الدولي معد بصورة منهجية جيدة، ويعطي صورة تقريبية عن المشهد الاقتصادي والاجتماعي في سوريا خلال السنوات الست من بدء الأزمة. يؤخذ على التقرير عدم دقة بعض المعطيات، والاستنتاجات. وهذا أمر متوقع نظراً لصعوبة الوصول إلى المعطيات الدقيقة بسبب ظروف الصراع، وإن الاعتماد على تقنيات الاستشعار عن بعد، ونماذج المحاكاة على أهميتها لا تغني عن المسح الميداني.

وبالعودة إلى التقرير فإن الخسائر الاقتصادية التي يقدرها بنحو 226 مليار دولار لا تشمل سوى رأس المال المادي الذي تم تدميره، وليس رأس المال المادي الذي تم تهجيره. فبحسب مصادر عديدة تم نقل الكثير من المصانع السورية ورؤوس الأموال إلى الخارج، وهي بحسب أقل التقديرات لا تقل عن نحو 50 مليار دولار. من جهة أخرى فإن الأرقام المتعلقة بالخسائر في الأرواح غير دقيقة، فعدد القتلى من مختلف الأطراف لا يقل عن 700 ألف قتيل، عداك عن الجرحى المعاقين بسبب الصراع، والذين لا يقل عددهم عن نحو 1.2 مليون شخص. هذه الخسائر البشرية سوف يترتب عليها مشكلات اجتماعية خطيرة  في المستقبل لجهة إعادة التوازن بين عدد الذكور والإناث في المجتمع السوري. بحسب بعض التقديرات فإن أكثر من مليون أنثى في سن الزواج لن يجدن فرصة للزواج. يضاف إليهن خروج نحو أربعة ملايين طفل من دائرة التعليم، وهؤلاء سوف يشكلون عبئاً على المجتمع والاقتصاد في المستقبل. خسر المجتمع السوري واقتصاده أيضا كوادر عديدة تقدر بما لا  يقل عن مليون شخص صرف عليها مليارات الدولارات لإعدادها وتأهيلها، عداك عن خسارة دورها في إعادة الإعمار.

لا يلحظ التقرير الخسائر غير المباشرة وهي تلك المتعلقة بإعادة الإعمار. من وجهة نظر فلسفة التنمية فإن جميع الأموال التي سوف تنفق على إعادة الإعمار، وتلافي الآثار الناجمة عن  الصراع هي خسائر، فالصراع المسلح جعل نقطة الانطلاق في التنمية منخفضة جداً.

لا يلحظ التقرير أيضا الخسائر الناجمة عن تحطيم منظومة القيم العامة، وإعادة تكوين الشخصية السورية من منظور قيم استسهال العنف، والسرقة والخطف، والغش، عداك عن سوء التغذية الناجم عن ارتفاع الأسعار. أضف إلى كل ذلك فقدان سوريا لاستقلالها السياسي وتوزيعها إلى مناطق نفوذ لعدد من الدول المتدخلة في شؤونها الداخلية، وانقسام السوريين بينها.

وإذ يقف التقرير عند نهاية عام 2016، فمن المنطقي القول إن الخسائر التي لحقت بسوريا في مختلف نواحي الحياة قد ازدادت كثيراً  في عام 2017 وما بعدها، وسوف تستمر تزداد حتى يوضع نهاية لهذه الأزمة غير المسبوقة في التاريخ.

يخطئ التقرير كثيراً في رؤيته لوضع الاقتصاد السوري قبل الأزمة، كأساس للمقارنة. لقد مر الاقتصاد السوري في أزمتين حادتين قبل عام 2010، واحدة بدأت في عام 1985 واستمرت حتى عام 1990، والثانية بدأت في عام 1997 واستمرت حتى عام 2005. وفشلت الرهانات على الخطة الخماسية العاشرة لإنقاذ الاقتصاد السوري من الهاوية التي وضعه فيها الفساد. في المقالة القادمة سوف نلقي الضوء على الاقتصاد السياسي للعنف في سوريا.