في القرن العشرين كانت المنطقة الممتدة بين دجلة والنيل هي الوحيدة التي أفرزت محاولات لتزعم العرب، بدءاً من الملك فيصل بن الحسين منذ عام 1921 في بغداد، وقبلها بعام محاولته الفاشلة مع حكمه القصير في دمشق، وصولاً إلى جمال عبدالناصر. تنازعت بغداد والقاهرة على زعامة العرب في فترة 1945-1958، قبل أن تحسم الأمور مع الوحدة المصرية- السورية في الثاني والعشرين من شباط/فبراير1958 لصالح عبدالناصر، ما كان إيذاناً بسقوط حكم الهاشميين في العراق يوم الرابع عشر من تموز/يوليو 1958.
كانت المملكة العربية السعودية تقف مع مصر خلال فترة 1945-1957 ضد طموحات الهاشميين، ثم تنازعت الرياض والقاهرة لما امتد عبدالناصر إلى اليمن مع قيام الحكم الجمهوري في السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر1962. بعد وفاة عبدالناصر حصل نهوض للقوة العربية إثر هزيمة 1967 من خلال تشكل ثالوث القاهرة- الرياض- دمشق بين عامي1971-،1975وهو كان العمود الفقري لحرب 1973 وقد جرت استعادة ضعيفة لهذا الثالوث بين أيار/مايو 1990 وحزيران/يونيو 2000 ثم حصلت في آذار/مارس 1991عبر”إعلان دمشق” محاولة لإنشاء منظومة أمنية بين مصر وسوريا ودول مجلس التعاون الخليجي الست، بعد قليل من انتهاء حرب1991،تتولى فيها القاهرة ودمشق الاشتراك في الدفاع عن أمن الخليج، وهو ما أفشلته واشنطن.
ولكن عملياً كان قد حصل افتقاد وفراغ في القوة العربية منذ انفراط هذا الثالوث مع زيارة الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل في التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر1977 وتوقيع اتفاقيات كامب دافيد(السابع عشر من أيلول/سبتمبر1978) ثم عقد معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية (السادس والعشرين من آذار/مارس1979)، وهو ما عنى استقالة مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي واستقالة مصرية من شؤون آسيا العربية، وقد كانت تدخلات مصر في آسيا العربية هي مصدر قوتها مع محمد علي باشا ومع جمال عبدالناصر، وحتى حرب تشرين الأول/أكتوبر1973ما كانت مصر لتدخل تلك الحرب لولا مشاركة دمشق ومساندة الرياض. جرت محاولة سورية-عراقية فاشلة بين خريف 1978وصيف 1979 للتعويض عن غياب مصر عبر تشكيل “هلال خصيب بعثي”، قبل أن تدخل بغداد ودمشق في مصادمات مريرة بسبب دعم العراقيين للإسلاميين السوريين المعارضين في أحداث حزيران/يونيو 1979- شباط/فبراير 1982وبسبب دعم دمشق لإيران في الحرب العراقيةالإيرانية 1980-1988.
هنا تحضر ذكرى في آذار/ مارس 1978 حيث تم عرض “مشروع موضوعات المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوري(المكتب السياسي)”على الأستاذ إلياس مرقص. كان نص المشروع يقول إن إسرائيل ستستغل زيارة السادات وإمكانية عقد تسوية مع مصر من أجل فرض التسوية للصراع العربي-الإسرائيلي على باقي العرب لإنهاء الصراع وجعل إسرائيل “كياناً طبيعياً” في المنطقة. اعترض الأستاذ إلياس على النص وقال إن إسرائيل ستجري فقط تسوية واحدة مع مصر من أجل عزل رأس العرب عن جسمهم للاستفراد بهذا الجسم جزءاً جزءاً ليس من أجل التسوية مع كل جزء بل من أجل تحطيمه وإنهائه مادام هذا الجسم سيعاني من الترهل والضعف والعفونة بتأثير فصل الرأس عنه، وهي لا تريد تسوية لا مع الفلسطينيين ولا مع السوريين ولا باقي العرب. كانت اسرائيل في ذلك الشهر تقوم بغزوها الأول لجنوب لبنان مستغلة زيارة السادات وكانت في شباط/فبراير 1978 قد انفجرت حوادث ثكنة الفياضية بين الجيش السوري وميليشيا “القوات اللبنانية” التي بدأت تجاهر بالدعم الإسرائيلي.
عملياً ، تحققت نبوءة الأستاذ إلياس مرقص، فمنذ يوم التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر1977هناك فراغ قوة عند العرب مع غياب مصر. لولا هذا الفراغ ما كانت تل أبيب لتقوم بغزو لبنان عامي 1978 و1982ولما كانت الحرب العراقية-الإيرانية قد نشبت، ولما تجرأت اسرائيل على ضرب المفاعل النووي العراقي (السابع من حزيران/ يونيو1981)،وعملياً فإن مفاعيل الحرب العراقية-الإيرانية قد قادت صدام حسين إلى غزو الكويت (الثاني من آب/أغسطس 1990) الذي أنتج حرب 1991وغزو واحتلال الأميركان للعراق عام2003. هذا الفراغ والافتقاد للقوة العربية انعكس مصرياً لما غابت القاهرة عن عملية مفاوضات تسوية مشكلة جنوب السودان (1993-2005) ومشكلة دارفور (منذ عام 2003) وعن حل مشكلة ليبيا مع الغرب عبر قضية لوكربي 1992-2003.
هذا الفراغ في القوة أو افتقادها عند العرب، تم ملؤه من قبل ثلاث قوى إقليمية، هي إيران وتركيا وإثيوبيا. تحولت إيران إلى قوة إقليمية كبرى مع سيطرة مواليها المحليين على المشهد العراقي في مرحلة ما بعد صدام حسين، ثم أصبحت لاعباً رئيساً في قطاع غزة (مع سيطرة حماس على القطاع عام2007) وفي لبنان (منذ 2008) وسوريا (مع أزمة2011-2021) واليمن (منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء في الحادي والعشرين من أيلول/ سبتمبر2014).
و تحولت تركيا مع انفجار مجتمعات عربية عدة عبر “الربيع العربي” عام 2011 إلى لاعب رئيسي مؤثر في دواخل عربية عدة في سوريا وليبيا وهي لاعب مهم في اليمن وعند انفجار الخلاف الخليجي مع قطر عام2017 كانت أنقرة سنداً للدوحة بوجه الرياض وأبوظبي. إثيوبيا كانت لاعباً مهماً في جنوب السودان منذ تمرد العقيد جون غارانغ عام 1983 وقد أصبحت لاعباً مهماً داخل دولة جنوب السودان التي انفصلت عن السودان عام 2011،وقد تدخلت عسكرياً في الصومال المضطرب عام 2006. هنا، لم يكن صدفة بدء الإثيوبيين ببناء “سد النهضة” في شهر نيسان/أبريل 2011 بعد ثلاثة أشهر من بدء الانفجار المجتمعي المصري في الخامس والعشرين من كانون الأول/يناير. وتريد إثيوبيا عبر هذا السد أن تقول إنها سيدة نهر النيل وليس مصر، وهي تتصرف طوال عشر سنوات وفق هذا المنطق، وخاصة مع التعبئة الانفرادية الأولى للسد من دون اتفاق في تموز/ يوليو 2020 والتعبئة الثانية المقررة في تموز/ يوليو القادم، وهي من أجل ذلك ترفض أي اتفاق مع مصر والسودان تجاه تقاسم المياه وتعبئة السد وإدارته.
إلى أين مآلات العرب مع هذا الافتقاد للقوة، أم أن هذا الافتقاد سيتم التعافي منه وتجاوزه؟