دمشق ـ نورث برس
انعدام الثقة هو عنوان العلاقة التي تربط بين أصحاب الفعاليات الاقتصادية ووزارة المالية في الحكومة السورية، فالمالية تتعامل مع كل أصحاب الفعاليات الاقتصادية كـ”متهربين من الضرائب يقدمون بيانات كاذبة” عند الإعلان عن أرباحهم، وأولئك يصفونها بـ”الظالمة”، التي تريد محاصصتهم أرباحهم.
ونهاية الشهر الماضي، كشف وزير المالية السوري، كنان ياغي، عن تحصيل مئات المليارات من “الفاسدين”، وتوعد بمحاصرة ظاهرة التهرب الضريبي، واستمرار ملاحقة المتهمين بها.
ويصف أحد الخبراء الاقتصاديين، سوريا “بالجنة الضريبية” لرجال الأعمال، الذين يدفعون الرشى بالملايين، ويغصون بدفع الضريبة المستحقة عليهم.
والجنة الضريبية أو الملاذ الضريبي، هو منطقة أو دولة في العالم، عادة هي جزر أو دول صغيرة جداً، لا تفرض ضرائب أو تفرض معدلات ضريبة منخفضة للغاية على الشركات والثروات فيها. بالتالي يتهرب الناس من دفع الضرائب عن أموالهم وأرباحهم عبر وضعها في تلك الدول.
وفرضت خزائن المالية شبه الخاوية، طريقة عمل مختلفة، فالموارد أصبحت محدودة للغاية، واستثمار كل الفرص المتاحة أصبح أمراً لا بديل عنه، لذلك اعتمدت المالية آلية جديدة في التحقق من الأرباح لدى أصحاب المنشآت الصناعية بنفسها.
والطريقة الجديدة تعتمد على مداهمة مجموعة من مراقبي الدخل المنشأة الاقتصادية، “يقتحمونها” كما يصف أصحاب الفعاليات الاقتصادية ما يحصل.
ويقوم بعض الأشخاص في المجموعة باستلام العمل مكان المحاسب ليتحقق بنفسه من حجم الأرباح ومن ثم يتم وضع الضريبة بناء على الأرباح التي تظهر معهم.
وفي محلات أخرى يحتاجون لأكثر من يوم في إحصاء الموجودات والمستوردات في المستودعات، وهذا ما حصل مع أصحاب بعض المحلات المشهورة، مثل حلويات نفيسة وداؤود في دمشق.
وكانت وزارة المالية قد قررت تشكيل لجنة جديدة، لدراسة النظام الضريبي ومراجعة التشريعات الضريبية النافذة، واقتراح التعديلات التشريعية اللازمة، وسيتم تحديد اجتماعات اللجنة بما لا يقل عن اجتماعين شهرياً.
قصة قديمة
وسبق أن تجاوزت المبالغ المكتشفة خلال 2019 والمطلوب استردادها لمصلحة الخزينة العامة للدولة من الجهات العامة في القطاعين الاقتصادي والإداري 13.15 مليار ليرة سورية، إضافة إلى 425.37 ألف يورو، و455.17 ألف دولار.
وقدر حينها أن 5.4 مليارات ليرة من المبالغ المكتشفة خلال 2019 سببها الفساد، نتيجة الاختلاس والتزوير والخلل، وتطلبت عقوبات إدارية ومسلكية بحق المخالفين، بحسب الوزارة.

والتهرب الضريبي في سوريا “قصة قديمة”، والعلاقة الضريبية المشوهة جعلت من الموظفين الممول الأول لخزينة الدولة، ولكن حاجة خزائن المالية للموارد دفع إلى التحصيل الضريبي بشكل قسري كما يحصل حالياً، بحسب موظفين.
ويعرف كلٌّ من الطرفين (الصناعيين والتجار من جهة والمالية من جهة أخرى) بعضهم جيداً، وطريقة عمل كل منهم.
ويصف إبراهيم العدي، وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، في أحاديثه ومحاضراته، سوريا بـ”جنة التهرب الضريبي”، ويقدر قيمته بمبلغ يفوق الألفي مليار ليرة. وهذا الرقم يعادل إلى حد ما إجمالي قيم الدعم الاجتماعي في موازنة العام الجاري.
ويشير إلى أن “ظروف الحرب سمحت بمعدلات تهرب أوسع مما كانت عليه قبلها، وأن المتهربين ضريبياً يستخدمون أساليب غير شرعية لدفع ضريبة أقل.”
كما يصف نظام التحصيل الضريبي بـ”المتخلف، والمنقرض عالمياً” بعدما أصبح عمره أكثر من 70 عاماً.
ويضيف “العدي”، أن “التاجر السوري في حالة خصام دائم مع وزارة المالية، ويعتمد تقديم بيانات مزورة.”
ويعتبر التهرب الضريبي من أكبر الجرائم في كل دول العالم، والمشكلة في سوريا، أن طريقة عمل الموظفين في المالية كما في الجمارك والتموين، فمعظمهم يجنون ثروات هائلة، بأموال ذهبت إلى جيوبهم عوضاً عن صناديق المالية.
واعتبر “عدي” أن مصطلح التهرب الضريبي هو مصطلح تجميلي لحالة الفساد الضريبي “لأن المتهرب ضريبياً يستخدم كل الأساليب غير الشرعية لدفع ضريبة أقل أي التهرب من استحقاق مالي عليه.”
ويتسم القطاع الخاص في سوريا بسمات مختلفة فرضتها عليه بيئة العمل التي تعتمد المحاصصة بين أصحاب المال الخاص والمسؤولين أصحاب القرار، بشكل جعل أصحاب رؤوس الأموال يستاؤون من أي مطالبة بالدفع، لأنهم دفعوا لشركاء مسؤولين لكي يحصلوا على الحماية والتهرب من الضرائب وغيرها.
“موضوع شائك”
بدوره، شدد أحد تجار دمشق وهو عضو في غرفة تجارتها، على أن موضوع الضرائب “شائك جداً”، وأن هناك دفتر للضرائب على الأرباح والدخل المقطوع. وأشار إلى أن كل المعايير المتبعة لاحتساب وتقدير الضريبة “غير صحيحة، وليس لدى المالية الرغبة في تصحيحها.”
وأضاف المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن “التكليف حسب مزاج المكلف”، في إشارة إلى أنه يخضع لمعايير مزاجية، “حيث يمكن لموظف المالية أن ينصفك أو يظلمك. لذلك تجد الجميع يدفعون من تحت الطاولة، كيلا تتعقد الأمور أكثر.”
وقال إن “موظف المالية يطلع على أرقام كبيرة بسبب التضخم، والقلم بيده وهو من يستطيع أن يضع الرقم مليون أو 100 مليون.”
احتدمت الأمور في الجولة الأخيرة لموظفين من وزارة المالية إلى حلب، حيث وصل فريق من وزارة المالية إلى حلب دون الاهتمام لعمل وبيانات موظفي المالية هناك.
وأثارت الضريبة التي تم فرضها على محل لصناعة البلاستيك استياء صاحب المنشأة هشام دهمان، الذي نقل “معركته” مع المالية إلى شبكات التواصل الاجتماعي بعد تكليفه بمبلغ فاق الخمسة مليارات ليرة عن ثلاثة سنوات مضت.
وقرر “دهمان”، إغلاق المنشأة وظهرت الكثير من ردود الأفعال من تجارٍ وجهاتٍ رسمية: “كيف للحكومة أن لا تقدر جهود الصناعيين الذين ظلوا يعملون في البلاد رغم كل ظروف الحرب كما يقولون؟.”