تعويم الدول

في جلسة تجميد عضوية سوريا بالجامعة العربية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، تصرف وزير خارجية قطر حمد بن جاسم الذي ترأس الجلسة وكأنه أستاذ الصف مع التلاميذ حيث رد مهدداً عندما اعترض وزير خارجية الجزائر على مشروع القرار بالكلام التالي: “اسكت، جاييكم الدور”. روت هذه الواقعة أوساط في الأمانة العامة للجامعة العربية لمعارضين سوريين، وهم في حالة حيرة تجاه منبع القوة التي أخذتها دولة قطر آنذاك في المنطقة.

هنا، لم تكن حيرة المسؤولين  في الجامعة العربية منفردة بل شاركهم بها الكثيرون في الأوساط السياسية والصحفية تجاه دولة مغمورة ، لم يكن الكثيرون يعرفون أو يسمعون بها، والكيفية التي برزت بها في تسعينيات القرن العشرين وبدأت تتحدى الزعامة السعودية لمجلس التعاون الخليجي بداية من حرب اليمن عام 1994عندما خالفت قطر الدول الخمسة الأخرى في عدم تأييدها للانفصاليين الجنوبيين ضد الشمال اليمني، وصولاً إلى أدوار بارزة بدأت تأخذها الدوحة مثل الوساطة بين الرئيس اليمني علي عبدالله صالح وخصومه الحوثيين الذين دخلوا في حروب عدة ضده بين عامي 2004و2009 أو مثل مؤتمر شباط/ فبراير 2010 في الدوحة الذي جمع الرئيس السوداني عمر البشير مع حركات دارفورية متمردة ضده، وصولاً إلى الدور الرئيس التأجيجي أو الذي يصب الزيت على النار الذي لعبته دولة قطر وذراعها الإعلامية “محطة الجزيرة”، عندما بدأ ما يسمى بـ”الربيع العربي” عام 2011.

وعلى هذا الصعيد يمكن لهذه الحيرة أن تتضاعف إذا أخذنا تلك الصورة، لما كانت (قاعدة العديد)، والتي تقع قرب الدوحة، هي مركز القيادة لعملية غزو العراق في عام 2003، فيما كانت “محطة الجزيرة”، وهي على بعد كيلومترات قليلة من تلك القاعدة التي هي مركز القيادة المركزية العسكرية الأميركية والتي يمتد نطاق عملها على نطاق الشرق الأوسط ، تلهب المشاعر العربية ضد الغازي الأميركي لبلاد الرافدين.

حتى الآن لم يتم التطرق إلى هذا الموضوع المتعلق بدور قوي تأخذه دولة صغيرة في فترة زمنية محددة انتهت بالنسبة للقطريين في الخامس والعشرين من حزيران/ يونيو 2013 مع تنحي أمير قطر حمد بن خليفة ومن ثم باليوم التالي وزير خارجيته. هنا، يجب البحث عن كلمة السر في واشنطن التي أيدت الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من أيار/ مايو 1990 وأيدت الشمال ضد الانفصاليين الجنوبيين عام 1994 في اتجاه يوحي بتأييد الأميركان لدولة قوية ثانية في شبه الجزيرة العربية وهو ما كان يتوجس منه آل سعود منذ مؤسس المملكة السعودية الملك عبد العزيز ومازالوا، والتي – أي واشنطن –  شجعت الدور القطري الإقليمي في فترة ما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 التي أقامت شرخاً بين واشنطن والرياض ليس فقط بحكم أن 15 من 19 مهاجمين كانوا سعوديين (وهذا شيء كان مقصوداً حتماً من أسامة بن لادن) وإنما أيضاً لأن الأميركان قد بدؤوا منذ ذلك اليوم يرون ارتباطاً بين التطرف الإسلامي وبين اتجاهات مثل الوهابية. أيضاً كلمة السر الأميركية تلك تحوي عنصراً ثالثاً وهو بحث الأميركان منذ عام 2005 عن تقارب مع جماعة الإخوان المسلمين من أجل استخدامهم كأداة أكثر فعالية من الأنظمة القائمة الموالية لواشنطن ضد “تنظيم القاعدة” الذي بدأ يمتد نحو بلاد الرافدين واليمن والسعودية والمغرب العربي، ويعرف الأميركان الارتباط الوثيق بين الاخوان المسلمين والأسرة الحاكمة في قطر.

يمكن ،هنا، الحديث عن تعويم أميركي لدولة اسمها قطر. يؤكد هذا التعويم الأميركي لقطر أن خفوت وغروب الدور القطري مع تنحي أمير قطر عن الحكم كان ملحوقاً بعد ثمانية أيام بسقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر والذي تم بغطاء من واشنطن بعد تغيير الإدارة الأميركية لموقفها من الإسلاميين، كما أن حصار ومقاطعة دولة قطر من قبل السعودية والإمارات والبحرين ومصر في الخامس من حزيران/ يونيو 2017 قد أتى بعد عشرة أيام من زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للرياض والتي كانت أول زيارة له للخارج بعد توليه منصبه.

أيضاً، هناك تعويم أميركي ثان قامت به واشنطن مع دولة الامارات العربية المتحدة في فترة “ما بعد الدوحة”، وفي الثالث من حزيران/ يونيو 2019 نشرت مجلة “فوربس انديا ماغازين” مقالاً تحت عنوان “محمد بن زايد: القائد العربي الأكثر قوة”. هنا، ارتبطت قوة الإمارات بالتوتر الأميركي- الإيراني في عهد ترامب، وبالاتجاه عند واشنطن  نحو مجابهة الإسلاميين الذي وصل حد التشجيع الأميركي إلى تقديم نموذج جديد عن الإسلام بعيداً عن الأصولية الإسلامية وعن الوهابية، وهو ما نرى محمد بن زايد، ومعه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، قد قدماه من خلال حماس.

منذ عدة سنوات تلعب الامارات دوراً خاصاً في اليمن، أحياناً متصادماً أو متفارقاً مع السعودية، وتقيم هناك قواعد عسكرية، كما أن لها قاعدة عسكرية في إريتريا وقد عقدت مع جمهورية أرض الصومال الشمالية اتفاقاً طويل الأمد لإدارة ميناء بربرة، وقد لعبت أبوظبي دوراً فاق دور الرياض في مساعدة اللواء خليفة حفتر في ليبيا ضد إسلاميي الغرب الليبي المدعومين من أنقرة. الآن، ومع اتجاه إدارة جو بايدن للاتفاق مع إيران من جديد حول برنامج طهران النووي تجد أبوظبي نفسها في مأزق شديد، هو شبيه ربما بالمأزق القطري في صيف 2013عندما بدأ الغروب الأميركي للدور الذي كانت تلعبه الدوحة في الإقليم.